«كهنة آمون سادة البلاد».. أيام الحكام الدينيين في مصر القديمة
مع صعود نجم أمراء طيبة خلال القرن السادس عشر قبل الميلاد وارتقاءهم لعرش مصر المستقلة بعد طرد قبائل الهكسوس المستوطنة طيلة مائة عام، تمكَّن أحمس ومن بعده من ملوك محاربين عظام طيلة مائتي عام من تأسيس دولة قوية في حقبة جديدة عُرفت باسم الدولة الحديثة أو عصر الإمبراطورية بسطت سيطرتها على كل أنحاء البلاد بل ومدت نفوذها خارج الحدود حتى سيطرت على الشرق الأدنى القديم وبلغت أقصى امتداد لها حيث نهر الفرات شمالاً إلى الجندل الرابع للنيل في الجنوب، ونجح في تأكيد الهيمنة المصرية في بلاد الشام شرقاً وفي العمق الليبي غرباً. أصبحت في تلك الأحيان مدينة طيبة هي عاصمة الإمبراطورية وحاضرتها العصرية تنتشر بها المعابد وتدور بها حركة المعمار على وتيرة متسارعة وانهالت على جوانبها مختلف أنواع الجزية من كل حدب وصوب، وتستقبل أسواقها البضائع الواردة من جميع أنحاء العالم القديم، وهي مملكة عرش مصر.
آمون رع المعبود الأكبر
وأصبح معبود طيبة آمون رع هو المعبود الأكبر الراسخ في وجدان الناس وقلوبهم منذ آلاف السنين، وهو الراعي لفيالق الجيش والمتمم لانتصاراته العسكرية وله الفضل الأكبر في تكوين تلك الامبراطورية المهيبة مترامية الحدود، فلا تحرك عسكري يتم إلا بمباركة كهنته ولا نصر يتم إلا تحت رايته، وهو الذي تعطف وأذن بالتحركات الحربية وأعار سيفه وعلمه السماوي إلى الملك كي يقود الجيوش للحفاظ والتأكيد على عرش مصر، فنرى على لسان كامس الإبن الثاني للبطل الشهيد سقنن رع "لقد أبحرت شمالاً في عزم وقوة لأغلب الآسيويين بأمر آمون أعدل الناصحين".
والواقع أن واجبات الكهنة العظام قد أصبحت معقدة جدًّا في عهد سيادة طيبة، حيث كانت التفاصيل الدقيقة التي لا بد من مراعاتها عند أدائها تشغل كل حياة الأشخاص الذين وهبوا حياتهم لإنجازها والقيام بأدائها. كان عليهم أن يؤدوا شعائر يومية عديدة موزعة على ساعات النهار والليل المختلفة بطريقة لا تترك مجالًا للقيام بأي عمل آخر جديد دون أن يُغير على الوقت المخصص لراحة الجسم وحاجياته. فقد كان الكاهن الأكبر يستيقظ كل صباح في ساعة معينة، وكانت له أوقات خاصة لتناول طعامه ورياضته، وللمقابلات، ولإقامة العدل، ولمباشرة الأمور الدنيوية، وللراحة مع زوجاته وأولاده. وفي أثناء الليل كان يظل مستيقظًا أو يقوم في فترات؛ ليحضر الأحفال المختلفة التي كانت لا تؤدَّى إلا عند شروق الشمس. فقد كان مكلفًا بملاحظة كهنة آمون في الأعياد التي يخطئها العدُّ، وهي التي كانت تقام للمعبودات، وكان لزامًا عليه أن يحضرها إلا إذا كان ثمة عذر قهري. كما أن عدم التمرُّن كان يؤدِّي إلى ارتكاب أخطاء أو ترك أشياء؛ مما يجعل الشعائر تفقد قيمتها. ولا شك في أن الأمور الدنيوية الخاصة بالملك — وبخاصة الإدارة الداخلية، والعدالة، والمالية، والتجارة، وشئون الحرب — كانت كلها تتطلب منه وقتًا كبيرًا حتى إنه كان يضطر — بأسرع ما يمكن — إلى أن يجد لنفسه نائبًا يؤدي واجباته الدينية.
حكم مصر من خلال الملك
وطبقا للاهوت الرسمي لتلك الفترة أصبح أمون رع هو الذي كان في حكم مصر من خلال الملك، ويظهر مشيئته من خلال كهنته، من ثّم أحرز كهنة آمون خلال تلك الفترة تحت رئاسة كاهنهم الأكبر أعظم سلطة سياسية، فكان للكاهن الأكبر وظائف إدارية هامة بجانب دوره الروحي في البلاد حيث كان يشرف على مزارع المعبود وخزانة قرابينه وأماكن تجمع عبيده من الأسرى وهو ما خوله التدخل في الجوانب السياسية للدولة، ويليه ثلاثة كهنة كبار حملوا ألقاب الكاهن الثاني والثالث والرابع لآمون في الكرنك. وكان الكاهن الثاني ينوب عن الكاهن الأكبر في دوره السياسي والديني حيث الاشراف على عمال الحقول والشئون المالية للمعبود مما جعل تحت إمرته عدد مهول من الموظفين والكتبة والخدم لإدارة أعمال الرب آمون. أما الكاهن الثالث فكان يعاون الكاهن الثاني في أعمال الطقوس والاشراف على تنظيم القرابين ومعه الكاهن الرابع الذي توكل إليه متابعة أراضي المعبود والخيرات الخارجة منها.
وكان لآمون رع وكهنته نصيب الأسد في تلك الخيرات المنسابة على البلاد سواء من عطايا ملكية أو جزية قادمة من خارج البلاد أو قرابين من مريدي المعبود وأتباعه. وكان على جيوش مصر المنتصرة أن تدفع ديناً لآمون رع ثمن دعمه السماوي لها وتقدم لمعابده النصيب الكبير من المغانم التي يحصلون عليها باعتباره راعيها في النصر وحاميها من الهزيمة.
وأضحت معابد الكرنك والأقصر التابعة لآمون رع في حكم مصر بمثابة هيئات مهولة يتبعها العديد من المنشآت الخدمية من ورش ومصانع ومزارع وحظائر ومخازن غلال بيوت خزانة ومصايد سمكية ومراكب صيد وغيرهما من الموارد الاقتصادية الثقيلة المنفضلة إدارياً عن أملاك الملك، يخدم في أراضيها مختلف الموظفين والعمال والأسرى الأجانب الوافدين من البلاد التي فتحها ملوك الأسرة الثامنة عشر. فنجد الملك تحتمس الثالث الذي أعلن نفسه ابناً لآمون رع يقدم العديد من العطايا "لأبيه" منها أكثر من 700 رطل من الذهب في العام الرابع والثلاثين من حكمه ومثلها في العام الثامن والثلاثين بالإضافة إلى 800 رطل من الذهب في العام الحادي والأربعين، كما نقش الملك في معبد آمون قائمة طويلة من المدن والممالك التي استولى عليها خلال غزواته بالشرق الأدنى القديم والتي وهب جزيتها السنوية "لأبيه آمون".
الموظفين لخدمة رع
ولدينا بردية من عهد رمسيس الثالث من الأسرة 20 تقدم لنا احصائية للموظفين الخاضعين لخدمة معبد آمون رع من كهنة وإداريين وعمال وفلاحين وصيادين وبحارة وغيرهم، حيث يصل عددهم إلى نحو 81322 فرداً، كما نعرف بأن 433 حديقة كانت تابعة للمعبد وعدة حقول بلغت مساحتها 2393 كم2 و 83 مركب صيد و46 منشأة إدارية و65 قرية تفيض بغلالها على المعبد ومخازنه. ومع نهاية الأسرة العشرين امتلك معبد آمون حوالي 20% من كل أراضي مصر المزروعة، وهي حقيقية توضح لنا مدى السطوة السياسية والقوة الاقتصادية التي وصل إليها كبار كهنة آمون.
ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، ولكن حصل الكهنة على العديد من المزايا الممنوحة بأوامر ملكية مباشرة أهمها إعفاهم ومعابدهم من الضرائب المستحقة للخزانة العامة، كما كان العاملون في دوائر المعابد معفون من واجبات العمل أو السخرة في الأراضي الزراعية الملكية، وهو ما يعني أنهم خارج نطاق السيطرة الحكومية ولا يخضعون لقوانين الموظفين الملكيين، وهو ما أدى إلى تحول المعبد إلى مؤسسة مستقلة تتنامى ثرواته دون أي مسائلة من الدولة ووصل الأمر بأن كان للمعبد قواته المسلحة الخاصة التي تحميه، وأضحت اقتصاديات المعبد وسلطة كهنته خلال الدولة الحديثة بمثابة دولة داخل دولة، حسبما ذكر شريف شعبان في كتابه "الدين والحكم.. مواقف فاصلة" والصادر عن دار نهضة مصر للنشر والتوزيع..