المخرج سمير العصفورى يروى أسرار تمرده على المسرح التقليدى: ليس مقدسًا
تعرضت لهجوم شديد بسبب عروضى الخاصة وبعضهم قال: «بعد التعليم فى فرنسا اشتغل مسرح تجارى»
حوّلت «هبط الملاك فى بابل» لدورينمات إلى عرض شعبى فى شارع عمادالدين وحقق إقبالًا مبهرًا
لم تكن لدينا حياة اجتماعية بل كانت حياتنا كلها هى المسرح.. وسميحة أيوب كانت تبيت فى المسرح القومى حين تولت إدارته
المخرج المسرحى الكبير سمير العصفورى.. «الدرس- زيارة السيدة العجوز- مأساة الحلاج- العسل عسل والبصل بصل- الست هدى- هبط الملاك فى بابل- إنها حقًا عائلة محترمة- العيال كبرت- حزمنى يا- كده أوكيه- ألابندة.. إلخ»، سمير العصفورى هو تلك الخلطة بين الشعبى والمتفرد.. هو مخرج له بصمة فى تاريخ المسرح المصرى، أعماله المسرحية كان لها أثرها الكبير فى حركة المسرح المصرى من ناحية.. وفتحت بابًا للتفكير والتجريب ومفارقة السائد.. وأثرت شعبيًا فى الجمهور من ناحية أخرى، حيث استطاع العصفورى تحقيق معادلة صعبة فى معظم عروضه حين جمع بين التفرد ومفارقة الكلاسيكى والمسرح الشعبى الجاذب للجمهور بمختلف مستوياته الفكرية والمسرح الذى يقدم كل عناصر الجذب الفنى، بداية من موضوعاته التى تتماس مع الواقع، وحتى شكله الفنى وتضمينه الاستعراض والكوميديا.. العصفورى.. لم يعطل عن الإبداع المسرحى أبدًا حتى مسرحيته الأخيرة التى قدمت على «القومى» من قرابة العام.. ولم يتوقف عن العطاء لحظة عبر مسيرته التى كان آخرها «مدرسة العصفورى» التى دشنها المخرج خالد جلال، رئيس البيت الفنى للمسرح، لتكون مسارًا لنقل الخبرات بين سمير العصفورى بخبراته ومعارفه الواسعة والمفارقة لكل ما هو تقليدى وأجيال من شباب المخرجين الموهوبين.. التى عقدت أول لقاءاتها بحضور سمير العصفورى قبل أسبوعين.
وتحتفل جريدة «الدستور» بعيد ميلاد سمير العصفورى بحوار مطول نشرت الجزء الأول منه الأسبوع الماضى، وتحدث فيه العصفورى عن كيف بدأ فى مسرح المدرسة ومنه كوّن فرقتين فى بورسعيد، قبل أن يتجه للجامعة وتتأكد موهبته فى مسرح الجامعة الذى كان بمثابة أكاديمية تخرج فيها كبار المخرجين وقتها «يوسف وهبى- كرم مطاوع- عبدالرحيم الزرقانى» ثم يقرر أن يستكمل دراسته للمسرح فى معهد فنون مسرحية عقب الانتهاء من دراسته بقسم اللغة العربية بكلية الآداب- جامعة عين شمس.. ثم يقدم فى وقت النكسة فى قصر الغورى رائعة صلاح عبدالصبور «مأساة الحلاج» ويلتقى وزير الثقافة ثروت عكاشة، فيرسله فى بعثة لدراسة المسرح بفرنسا.. تتزامن مع ثورة الطلاب بباريس وقتها.. حيث يتغير مفهومه للمسرح تمامًا ويعود إلى القاهرة متمردًا على الشكل المسرحى الكلاسيكى.
الرجوع إلى مصر
■ من أين نبعت بذور هذا التمرد الفنى؟
- أنا مولود فى مدينة ساحلية غربية كان بها العديد من المراكز الثقافية الأجنبية قبل أن يكون بها قصر ثقافة.. وكنت أساسًا عاشقًا للسينما اليونانية، حيث كان يعيش فى المدينة الكثير من اليونانيين والإيطاليين.. فكنت أستمتع بنوعية هذه الأفلام التى لم تكن واقعية على الإطلاق.. وكنت أحب شارلى شابلن وأسلوبه فى الاعتماد على لغة الجسد بديلًا عن اللغة المنطوقة..فأنا استمتعت بعروض أجنبية كثيرة جدًا فى بورسعيد.. كنت أعرف أن ما نقدمه تقليدى لكنه كان مقدسًا لدينا.. فكنت أتحسس فى مفارقته.. وأتمرد عليه بحساب.. إذن لم يكن التمرد وليد الرحلة ولكن الرحلة كانت هدية ثروت عكاشة الذى آمن بأن الثقافة ينبغى أن تكون متعددة الأماكن والوسائل واللغات.
■ بعد العودة إلى مصر دخل سمير العصفورى مرحلة الاحتراف فكيف استأنفت عملك بالمسرح؟
- قبل ذلك كانت هناك مرحلة بينية.. فحين عدت إلى مصر أنا وإنعام سالوسة.. وإنعام كانت رفيقة الرحلة طول الوقت اتجوزنا وسافرنا فرنسا وذهبت لدراسة الآداب فى السوربون لكن لم تستكمل دراستها وتفرغت لرعاية أمورنا وبنتنا تغريد.. وحين وصلنا إلى ميناء الإسكندرية كان معى عدد كبير من الكتب وسيارة صغيرة.. واكتشفت أنه ليس معى فلوس الجمارك التى يمكننى بها تخليص حاجاتى.. فقررنا إننا نتعشى فى إسكندرية ونتمشى قليلًا.. وأثناء ذلك لقينا إعلانًا عن مسرحية لفرقة الفنانين المتحدين إخراج سعد أردش.. فاستعجبت.. ماذا حدث فى مصر: الرائد سعد أردش هيخرج لفرقة حرة؟.. وأثناء ذلك قابلنا سعيد صالح بجوار المسرح.. فسألنى عن أحوالى ومتى عدت.. فأخبرته بالوضع وأن كتبى وحاجاتى مرمية فى الجمارك وليس معى نقود لإخراجها.. فما كان منه إلا أن دعا سمير خفاجى وكان يعرفنى.. فقال لى: تمضى معايا عقد؟.. قلت له: إزاى أنا راجع من منحة وعندى التزام تجاه مسرح الدولة؟.. دا ثروت عكاشة يدبحنى.. فقال لى: امضيه كأنك مضيته فى باريس.. فمضيت عقد مسرحية «مدرسة المشاغبين» وأخذت عربون «٥٠٠ جنيه» وذهبت لتخليص أشيائى من الجمرك.. وعدت إلى القاهرة.. وقد اعتبرتها سقطة.. لأنى حين عدت إلى مسرحى قابلت نبيل الألفى.. وقال لى: جميع العروض اتوزعت وكل العروض تم توزيعها ما عدا النص ده «هبط الملاك فى بابل» لدورينمات فأخذته وصار لدىّ نصان، وفى إحدى العصريات جاءنى اتصال على تليفون جارى وشخص بيقول لى: أنا تحت.. أنت مش عارف صوتى؟.. قلت له: لا للأسف.. فقال لى: أنا فؤاد المهندس.. أنا طالعلك.
كان سبب الزيارة إن فى ذلك الوقت كان هناك خلاف بين سمير خفاجى وفؤاد المهندس وانقسما، وجاءنى فؤاد المهندس يحمل نصًا مسرحيًا جديدًا له مع شويكار بعنوان «نجمة الفاتنة» مقتبس من فيلم قديم تجرى أحداثه فى شوارع باريس، وقال لى: يلا نبتدى.. وكان قد أخذ تليفون جارى من محمود مرسى.. ولم أعرف هل اختارنى المهندس لأنه أُعجب بى عبر أستاذى محمود مرسى.. أم كان يرغب فى قطع الطريق على سمير خفاجى؟. فسألت أحد أصدقائى القدامى الأستاذ عبدالله فرغلى.. وهو كان فى الأساس أستاذ اللغة الفرنسية.. فقال لى: أنت حمار.. اشتغل.. فاشتغلت فى ٣ أعمال فى وقت واحد.. واحد لخدمة الدين، وواحد لصالح فؤاد المهندس الذى كنت معجبًا به كثيرًا.. وواحد بمسرح الدولة.. واشتغلت.. ولكن لم يتم التوفيق مع كل عناصر العمل فى «مدرسة المشاغبين»، حيث كانت بداية نجومية عادل إمام وأبطال العرض منشغلون ففشلت التجربة وقتها واعتذرت وظل علىّ دين لفرقة المتحدين.. أما فؤاد المهندس فكان يأخذنى ذهابًا وإيابًا لمسرح الزمالك.. وذات مرة طلبت منه أن يعيدنى للمنزل بعدما تحركنا لأنى اكتشفت إنى جبت نص تانى غير نص المسرحية.. وهناك زجرنى المهندس قائلًا: ركز بقى.. وفى الفترة دى قدمت عرضين مع فؤاد المهندس: «نجمة الفاتنة» و«ليه.. ليه» تأليف بهجت قمر، وكان مسرحًا سياسيًا ولم يعجب جمهور فؤاد المهندس وقتها.. لذا لم يتحمس المهندس لتكرار مثل تلك التجربة فى مسرحه.. وهنا استل البعض ألسنتهم «بمحبة» وبدأوا يهاجموننى: مخرج القطرين.. بعد التعليم فى فرنسا اشتغل مسرحًا تجاريًا.. كلام كان غريبًا علىّ أنا العائد من باريس ولم أرَ فرقًا بين مسرح تقيمه الدولة ومسرح تقيمه فرقة خاصة ومسرح يقام فى الشارع، ومسرح يقام فى دكانة ومسرح بين الناس وبعضها. فالمسرح علاقة بين طرفين، طرف يعرض وجهة نظره وطرف لديه الرغبة فى أن يتعرف على وجهة النظر تلك.. يحدث ذلك فى الأوبرا أو تحت بير السلم لا فرق.. فالمسألة ليست مسألة زمان ولا مكان، المسألة هى المحتوى.. هى دى قناعتى.
بدأت فى مسرحية دورينمات الجديدة فى ١٠٦٩ فى مسرح محمد فريد الذى لم يعد يعمل الآن.. باسم «هبط الملاك فى بابل» أمر لا يناسب مطلقًا جمهور شارع عمادالدين ولن يقبل.. فلى صديق اسمه محمد عفيفى هو شاعر ومعد فلجأت له وفعلناها بثوب جديد وبالعامية وسميناها «سلطان زمانه» وأُعجب بها أنيس منصور.. ونجحت المسرحية جماهيريًا.. لكن اجتمعت الأقوال والآراء.. ما هذه الفوضى؟.. الضحك لم يتوقف.. قشر اللب والسودانى والتسالى ملأت المسرح..
فتساءلت: لكن هل وصلت الرسالة يا إخوان؟.. فناس قالت: نعم الرسالة وصلت وهذا مسرح جديد شعبى جدًا وعميق جدًا لدورينمات «خالص» وغنائى وراقص وغير مكسوف من قول أى شىء بمنتهى الصراحة.. وكنت محظوظًا جدًا بفرقة الحكيم وكانوا خريجين من فرق مسرح الجيش والذى منهم التطاوى وحسن حسنى وحسن عابدين.. ونفذت المسرحية بهم ونجحت جدًا جماهيريًا، ولكنها أثارت حفيظة بعض المخرجين المحترفين الكبار الذين رغم أنهم درسوا بالخارج لكنهم عادوا قبل أن يروا ما رأيته عقب الثورة فى باريس وغير مفهومى للمسرح تمامًا..
ثم انطلقت للعمل فى مسرح الدولة ثم العمل فى الأقاليم ومنها بنها وبدأ اقترانى بصفة دائمة بين مسرح الدولة ومسرح القطاع الخاص، حتى جاء النداء وبعدما كنت نائبًا صرت مديرًا لمسرح الطليعة وهنا بدأت مرحلة تانية تزيد على ٢٠ عامًا.
الفنان والمدير
■ هل كل فنان يصلح أن يكون مديرًا.. وهل شرط أن يكون المدير فنانًا ولَّا إدارة الفنون لها مقوماتها؟
- التجربة بتقول إنه التخصص والدراسة ليسا شرطين للإدارة.. فالناس كلها كانت تحتفى بفترة مهمة فى إدارة المسرح القومى كان يديرها أحد القادة العسكريين «المرصفى».. ولم يكن أديبًا ولا له علاقة بالمسرح.. ولكن المدير هنا ورث مسرحًا حقيقيًا والمسرح الحقيقى ليس مبنى.. ولكن مبنى ومعنى، والمعنى ليس فقط النصوص وأن هناك كتابًا للمسرح كنعمان عاشور وألفريد فرج وغيرهما من الكتاب المقيمين.. يعنى كاتب يكتب المسرحية فى الصيف وهو يعلم أنها ستقدم يقينًا فى الشتاء.. ويكتب المسرحية يقينًا للكاست الذى يعلمه جيدًا.. ويقينًًا هنا تعنى التخطيط المسبق وهو ما يشبه الكوميدى فرانسيز.. وده معناه أننا سنقدم مسرحًا حقيقيًا به ١٠-١٢ عرضًا سنويًا وهناك ١٠ من الكتاب و١٢ مترجمًا وفرقة وبرنامج للموسم نعلنه ونلتزم به.. فى هذه الحالة يمكن أن يقوم إدارى ماهر أو ظابط بإدارة وتنفيذ هذا البرنامج بانضباط ودقة كبيرة.. لأن المسرح فى وجهه التنظيمى يشبه المؤسسة العسكرية لأن فيها من يأمر ومن يستجيب للأمر ومن يناقش أيضًا. فكان من العسكريين فى إدارة المسرح، فترة المرصفى فترة عظيمة، وفترة حمروش فترة عظيمة.. ولا نستطيع أن ننكر أن من الفنانين كان فترة نبيل الألفى وكرم مطاوع وكمال يس وحمدى غيث وسميحة وغيرها.. فالفنان يدير لو لديه القدرة على الإدارة ومتفرغ لها.. لكن يأتى فنان لديه ١٠٠ مسلسل ومشغول بالتصوير ويدير.. فأنا اللى أعرفه أننا كنا مقيمين فى المسرح.. سميحة أيوب كانت بتبات فى المسرح حين كانت مديرته، لم يكن لنا بيوت ولم تكن لدينا حياة اجتماعية، كانت حياتنا الاجتماعية هى المسرح.. فده مسألة تانية خالص.. حين تكون مؤمنًا برسالة المسرح ويكون المسرح كمكان التعبد.
■ هل عطّل العمل بإدارة المسرح مسيرتك كمبدع؟
- لا إطلاقًا إدارتى مسرح الطليعة لم تمنعنى من تقديم عرض مسرحى كل سنة.. بالعكس كان هناك نجوم كبار يهرعون لمسرح الطليعة، لأنهم عارفين إنه يلائم مزاجهم الفنى.. وقد قدمت عددًا كبيرًا من المسرحيات حتى يكون لدىّ أنا والفنانون الملتزمون مثل محسن حلمى وإميل شوقى وفهمى الخولى داخل المسرح عروض جاهزة للتقديم دومًا حتى لا يصير المسرح عاريًا، وبما إنى كنت مخرج القطرين فكنت أعوّض الضعف المالى بعروض كنت أقدمها للقطاع الخاص.. وذات مرة أرادوا ترقيتى بنقلى للمسرح الحديث، اللى هو مسرح السلام، وهو مكان يعطى ظهره لجاردن سيتى «طبقيًا»، وكان مهجورًا فأراد د. إبراهيم حمادة نقل نجاح الطليعة له، فرفضت واحتدم الأمر بسبب إصرارى وإصرار د. إبراهيم حمادة، فدعانى صلاح عبدالصبور للاجتماع مع وزير الثقافة وقتها منصور حسن للمناقشة، فسألنى فأجاب سمير سرحان وقال: العصفورى ناجح فى هذا المكان ويمكن أن يقدم عروضًا على هذا المسرح جيدة كمخرج ويعود لمكانه الذى يتوافق مع رؤيته، فرفض الدكتور إبراهيم حمادة وقال إنه ترقية لى ونقل لمسرح أكبر ومدخله رخام.. فقال له الوزير: يعنى أنت هكذا تدفع به للخارج بجوانتى حرير.. فنظر لى الوزير وقال لى: يا سمير.. قوم روح مسرحك.. فيه قرار صدر إنك تتنقل وفيه قرار صدر الآن إنك تعود لمسرحك.. وفى عهد وزير الثقافة محمد رضوان، بعد تجديد القومى، أصدر قرارًا بنقلى للمسرح القومى.. وقال لى: ما رأيك؟.. شايف هيبة المسرح والزخارف.. فقلت له: لا هذا المكان يليق بسميحة أيوب.. وكان استبعدوها وقتها من القومى لأن لديها شركة خاصة، فأعاد سميحة أيوب للمسرح القومى مرة ثانية.. وقد واجه القومى وقتها أزمة فى فرقته فكان التليفزيون قد بدأ يبتلع نجوم فرقة المسرح القومى وظل مسرح الطليعة الفقير مضيئًا بفنانينه.. وفى عهد الوزير الأسبق فاروق حسنى استدعى النجم محمود يس ليدير المسرح القومى وكان اختيارًا ذكيًا، لأنه نجم كبير وله شهرة وأنتج وقتها «أهلًا يا بكوات» ونجحت نجاحًا كبيرًا، لكن حين حاول الاستقلال بالقومى حصل صدام بينه وبين فاروق حسنى.. واستدعانى فاروق حسنى وتصورت أنه للإصلاح بينهما لأنه بلدياتى من بورسعيد وبيننا تاريخ.. لكن طلب منى تولى القومى لأن محمود يس لن يستمر.. واقترحت وقتها أن يتم ضم القومى للطليعة.. واعترض صلاح السقا بشدة على الاقتراح.. والحقيقة كنت أراه المخرج الوحيد حتى نستطيع أن نصعد أجود ما يقدم فى الطليعة إلى المسرح القومى.. فيكون بمثابة معمل أو مختبر للمسرح القومى.
الخلاصة.. ظللت فى الطليعة أكثر من ٢٠ عامًا وكلما كانوا ينقلونى كنت أعود وأتشبث به. والفنان أثرى الإدارة والإدارة أثرت الفنان.