رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدين والحكم فى مصر».. ثنائية المقدس والسياسى عبر التاريخ

غلاف «الدين والحكم
غلاف «الدين والحكم فى مصر»

 

منذ فجر التاريخ ويحظى الدين بمكانة كبيرة جدًا فى قلوب معتنقيه وأتباعه، وفى كل عصر وأوان تكون للدين سطوته على الناس أو حتى على معظمهم، فتحول الدين بسبب قدسيته وهالته الكبيرة إلى سلاح سياسى فى أيدى الحكام منذ القدم وحتى الآن، ومن أكثر من سيتأثر بالدين وسطوته على السياسة والحكم أكثر من المصريين الشعب الذى يوصف بعبارة شعب متدين بطبعه.

فى كتاب «الدين والحكم فى مصر.. مواقف فاصلة» للدكتور شريف شعبان الصادر حديثًا عن دار نهضة مصر يدرس الكتاب العلاقة الأزلية التاريخية بين الدين والحكم فى مصر عبر تاريخ مصر منذ بداية الحضارة المصرية القديمة حتى نصل لسبعينيات القرن الماضى عن طريق سرد كل المواقف والأحداث التى صبغت بصبغة دينية، ولكن هدفها الحقيقى كان سياسيًا من الدرجة الأولى.

يعرج الكاتب إلى بداية التاريخ فى العصر العتيق والدولة القديمة، يوضح فى الفصول الأولى كيف نسجت أسطورة قدسية الملك وتنزيهه عن بقية البشر بوصفه ابن الأرباب، ومن نسل المعبودات لتضحى هالة مقدسة على الملك لم تمنع العامة فقط من معارضته بل حتى من ذكر اسمه أو النظر إليه. ربما سقطت تلك القدسية المبالغ فيها فى عصر الاضمحلال الأول والثورة الاجتماعية الأولى فى التاريخ التى هدمت ذلك الصنم المقدس، وأصبح الملك إنسانًا عاديًا ينتقد ويهاجم، يقفز بنا الكاتب إلى عصر الاضمحلال الثانى وعلاقة الهكسوس بسلاح الدين ثم بداية الدولة الحديثة التى أعادت ذلك السلاح الدينى بقوة مبالغ فيها استخدمها الملوك المحاربون لزيادة نفوذهم وقوتهم، ولكن فيما بعد انقلب السحر على الساحر فسيد معبودات الدولة الحديثة آمون رع أخذ نفوذ كهنته فى الازدياد حتى أصبحوا دولة داخل الدولة.

يتطرق الكاتب أيضًا إلى ثورة أخناتون الدينية التى أطاحت بقوة الكهنة وكسرت كل القوالب المتعارف عليها، ولكن الثورة انتهت بنهاية أخناتون وموته، وأخذ نفوذ كهنة آمون فى الازدياد أضعافًا مضاعفة حتى وصل فيما بعد ليعتلى الكاهن عرش الدولة. بعد حديث مطول عن سلاح الدين فى عهد المصريين القدماء، والذى استخدمه الملوك بطريقة احترافية كبيرة تأتى فصول الكتاب لتوضح أثر المحتلين وعلاقتهم بالدين، فترينا كيف نقم المصريون على الفرس بسبب إهانتهم لدينهم ومعبوداتهم على عكس موقفهم من الإسكندر الذى احترم جميع معبودات مصر وعلى رأسها آمون، فرحب به المصريون كالفاتحين، ثم البطالمة الذين حاولوا استخدام سلاح الدين باختراعهم معبودًا جديدًا يدمج بين مصر والإغريق، ويرينا الكاتب رغم حنق المصريين على البطالمة بسبب معاملتهم المجحفة، أنهم تحملوهم بسبب ذلك السلاح الدينى. تناولت فصول عدة قصة اليهود وعلاقتهم بمصر فى عهد المملكة المصرية، ومعاونتهم الفرس لاحتلال مصر وعلاقتهم بالإسكندر والبطالمة وبعدهم الرومان.

ينتقل الكاتب بنا إلى بداية اضطهاد المسيحية على أيدى الرومان، ثم عصر الصراع المذهبى الأخطر بين الكنيسة فى مصر والكنيسة فى روما ثم بيزنطة بعد ذلك، بعد معرفة روما باستخدام ذلك السلاح الدينى فى توحيد الإمبراطورية على دين واحد، يسرد الكاتب فصول الصراع حتى نصل لدخول العرب لمصر. هنا تبدأ الفصول التى تتحدث عن الخلافة الإسلامية وكيف دخل العرب إلى مصر وكيف خدم السلاح الدينى العرب بسبب انقلاب المصريين على البيزنطيين بسبب الصراع القائم بين الكنيستين، يؤرخ الكاتب لمصر فى عصر الخلافة الراشدة والأموية وكيف أثرت فى الدولة الإسلامية، ثم يرينا ثورات المصريين وأشدها فى عصر المأمون وكيف استغل المأمون السلاح الدينى فى الشائعة أن الثورة دينية مسيحية على الرغم من اشتراك مسلمين بها، لكن ليُبين أنها ثورة على الإسلام. 

علاقة العثمانيين بالخلافة التى شبهوها بأن الخليفة هو ظل الله على الأرض، وصراحة كانت تلك النظرة موجودة من عصر الدولة الأموية، لكن حاول العثمانيون استغلال الخلافة كل الاستغلال حتى وصلت إلى سرقتها؛ للاستفادة منها فى مفاوضاتها مع روسيا وحرب القرم ثم الحرب العالمية الأولى. 

لا يخلو التاريخ الحديث والمعاصر من استخدام السلاح الدينى، فاستخدمته الحملة الفرنسية متمثلة فى نابليون ومتفجرة فى عبدالله مينو، وكما استخدمها المحتلون استخدمها الحكام المصريون. فالحلم راود الملك فؤاد والملك فاروق بأن يصبحا خليفتين للمسلمين ليضفى ذلك شرعية قوية على حكمهما ويخلصهما من تسلط حكومة الوفد والبرلمان، ولا يمكننا نسيان ذلك المدرس الذى قنن الإسماعيلية وحلم بالحكم عن طريق الخلافة حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمون» الذى خلط الدين بالسياسة وأكمل طريقه خلفاؤه من بعده حتى وقتنا هذا، وتأتى نهاية الكتاب باستخدام ذلك السلاح من الرئيس السادات الذى لقب نفسه بالرئيس المؤمن واستخدم الإسلام السياسى؛ ليتخلص من أنصار نظام ناصر، لاعبًا بذلك السلاح الدينى السياسى الخطير الذى أودى بحياته هو شخصيًا فى النهاية.

فى النهاية نستطيع أن نجزم بأن سلاح الدين واستخدامه فى السياسة قد تم فى جميع عصور مصر من بدايتها حتى وقتنا الحالى، استخدمه الحكام الوطنيون والمحتلون على السواء، أحبه المصريون من حكامهم الوطنيين أكثر وبغضوه من محتليهم، ولكنه فى النهاية إذا أردت أن يطيعك المصريون فعليك تغليف سياستك بذلك الغلاف الدينى حتى لا يتفكروا كثيرًا، فهم شعب متدين بطبعه.