«المجتمعات الإلكترونية» تعزز من قوة اليمين المتطرف «1»
قليلة هى تلك الدراسات الرصينة المعمقة التى تتناول خطر الصعود المتنامى لـ«اليمين المتطرف» مؤخرًا فى المجتمعات الغربية، والتدقيق وراءها بالرصد حول مساحات التمدد فى دول عدة حتى باتت تشكل ظاهرة لافتة، فضلًا عن وصف بعض ممارسات هذا التيار والعناصر المنتمية إليه، بالسلوك الإرهابى تجاه الآخرين، واعتبار ذلك لا يحمل من المبالغة بقدر ما يحاول تلمس قدر من الإنصاف، فى حال تناول قضية «التطرف» والاقتراب من سلوكيات توصف بـ«كراهية الآخر» بشكل عام.
لذلك قد يكون جديرًا الاحتفاء بدراسة صدرت مؤخرًا بعنوان: دور المجتمعات الإلكترونية فى انتشار التطرف اليمينى، للباحثة «ماريانا دياز جارسيا» التى تعمل حاليًا فى معهد الأمم المتحدة الإقليمى لبحوث الجريمة والعدالة، ضمن فريق مركز المعرفة «Center Knowledge» المختص بالتحسينات الأمنية عبر وسائل التكنولوجيا والابتكار. تركز عمل جارسيا خلال مسيرتها المهنية، بشكل كبير، على الدور المحورى للتكنولوجيا فى القضايا الأمنية الراهنة، شمل ذلك استخداماتها الخبيثة من قبل شبكات الجريمة المنظمة، فضلًا عن استخدام التكنولوجيا فى شبكات التواصل الاجتماعى من جانب الجماعات المتطرفة، وعصابات المجالات المستحدثة مثل جرائم الملكية الفكرية.
لهذا تكتسب تلك الدراسة أهمية بالنظر إلى خبرة الباحثة المهنية، كما بدا عنوانها عاكسًا لمستوى مهنى واضح، وهى بداية تصف الفضاء الإلكترونى بـ«المجتمعات الإلكترونية» وهذا ملمح مميز لا شك يمتد ليشمل أقسام الدراسة التى تتناول بعد المقدمة، المجتمعات الإلكترونية والتطرف اليمينى ثم ديناميات التطرف عبر الإنترنت فى داخل نشاطات الجماعات اليمينية المتطرفة، وبعدها التضليل واستخدام نظرية المؤامرة ثم التجنيد والدعوات للعنف وبعدها دور الخوارزميات فى هذا النشاط، ومن ثم تجنب الاكتشاف وحظر المنصات الإلكترونية. وبالوقوف أمام مصطلح «المجتمعات الإلكترونية» ترى الباحثة أن عام ٢٠٢٠ شكل نقطة تحول، فى طريقة ارتباط الأفراد وتواصلهم مع بعضهم بعضًا.
حيث أدت المخاوف الصحية بشأن تفشى فيروس كورونا فى جميع أنحاء العالم إلى حالة واسعة من العزلة فى المنزل لشهور عدة، وأحدثت آثارًا اجتماعية وسياسية واقتصادية فاقمت حالة القلق والخوف. استتبع ذلك أن صارت وسائل التواصل الاجتماعى وتطبيقات المراسلة الذكية، الوسيلة الرئيسية للمناقشات الجماعية خلال التعامل مع الجائحة. فى هذا الصدد رصدت الدراسات الاستقصائية لمستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى فى مختلف الدول زيادة فى استخدام كل المنصات الاجتماعية خلال فترة التباعد الجسدى فى المنزل، ما مكن من إنشاء «المجتمعات الإلكترونية» وتعزيز دورها فى جميع أنحاء العالم، حيث تفاعلت مجموعات من الأفراد ذوى الاهتمامات المشتركة مع بعضهم بعضًا، على منصات شبكات الإنترنت المختلفة.
بالعودة إلى الجماعات اليمينية المتطرفة التى حددتها «المديرية التنفيذية للجنة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب»، كونها بيئة متغيرة ومعقدة ومتداخلة من الأفراد والجماعات، متمثلة فى الحركات التى تتبنى أيديولوجيات مختلفة لكنها مترابطة، وغالبًا ما ترتبط بالكراهية والعنصرية تجاه الأقليات. فى ظل سيناريو جائحة كورونا ٢٠٢٠ وما بعدها، كثفت الجماعات اليمينية المتطرفة دعايتها استثمارًا لديناميات الإنترنت الجديدة التى أفرزتها الجائحة، والتى تمثلت فى ظهور أشكال جديدة وواسعة النطاق من الاتصالات الجماعية. البحوث الاستقصائية تمكنت من الوقوف على بعض من ملامح تلك الجماعات، التى بدت كشبكات فضفاضة بلا قيادة بارزة وعابرة للحدود رغم تعصباتها الداخلية. لكن تطور تلك المجتمعات عبر الإنترنت أثبت أنه وسيلة فعالة لتنفيذ استراتيجيات وتقنيات نشر أيديولوجيتها، وزيادة الدعوات إلى العنف وتعريض دور السلطات للخطر، كما كشف عن سهولة ونجاح تجنيد أعضاء جدد أسهموا فى خلق تيار متماسك. علاوة على ذلك، أسهمت منصات التواصل الاجتماعى البديلة «غير التقليدية» التى ذاع صيتها بسبب طبيعة فترة العزلة، مع قاعدة مستخدمين أقل وتطبيقات مراسلة مستحدثة مماثلة، فى إنشاء وتوسيع «المجتمعات الإلكترونية» عبر الإنترنت، التى نجحت فى إرساء حالة التماسك وتوفير الملاذ الآمن للتطرف، من خلال تبنى نظريات المؤامرة، والإلحاح فى نشر أيديولوجيات اليمين المتطرف وأحكام التضليل.
هذه البيئة الجديدة المستحدثة لم تنشأ من العدم عام ٢٠٢٠ فى ظل جائحة كورونا، بل سبقتها محطات قريبة تاريخيًا إلى حد ما، مثلت التمهيد النموذجى لإنشاء مثل تلك «المجتمعات الإلكترونية» وذيوع الفكر اليمينى المتطرف عبرها. ففى عامى ٢٠١٥ و٢٠١٦ وفق الدراسة؛ حدثت زيادة هائلة فيما سمى بـ«انتشار المحتوى البغيض» عبر الإنترنت، مصاحبًا لأحداث اعتبرت مهمة وفارقة هى الانتخابات الرئاسية الأمريكية واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وانتقال الهجمات الإرهابية لتنظيم داعش إلى أكثر من دولة أوروبية، وأخيرًا وهو الأهم التدفق غير المنضبط للاجئين إلى أوروبا. هذه الأحداث سلطت الضوء على ظاهرة لم تكن جديدة تمامًا، تتمثل فى الجماعات اليمينية المتطرفة التى كانت تستخدم الموارد المتاحة عبر الإنترنت، لخلق حالة من الخوف والغضب والارتباك الناجم عن الأحداث الصادمة من أجل زيادة قوتها، رغبة فى تعزيز مدى وصولها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية. بعدها فى عام ٢٠١٧ كشفت المسيرة الشهيرة «وحدوا اليمين» فى ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة، عن الدور المركزى لشبكة الإنترنت فى إنشاء «المجتمعات الإلكترونية» ذات الآراء المتطرفة. فقد روجت هذه الجماعات للمسيرة فى مواقع شهيرة تضم ملايين المتابعين، أهمها مدونة النازيين الجدد «The Daily Stormer» والمدونة التحررية العنصرية «The Right Stuff» والبودكاست القومى الأبيض المعادى للسامية «The Daily Shoah»، مما أكسب المسيرة حالة من الزخم والمتابعة والنقل عنها والترويج ما لم تحظ به فعاليات مماثلة من قبل.
عاما ٢٠١٨ و٢٠١٩ مثّلا، أيضًا، نقلة نوعية فى تمدد ظاهرة الاستخدام الإلكترونى غير المسبوق، فى نشر فكر ونشاط الإرهاب اليمينى المتطرف، واللافت أن تلك المشاهد جرى وقوعها عشية الدخول فى العام ٢٠٢٠، التى اعتبرته الدراسة العام الفارق بامتياز لرسوخ تلك الظاهرة، ليصبح بذلك التنامى التاريخى المتتابع منطقيًا ومتسلسلًا للحد الذى يعطى تبريرًا أنه فعليًا لم يكن مباغتًا، كما لم تكن ظاهرة «المجتمعات الإلكترونية» هى الأخرى قد خلقت من العدم.
نستكمل الأسبوع المقبل بمشيئة الله أهم ما جرى خلال عامى ٢٠١٨ و٢٠١٩، قبيل ساعات من حلول عام ٢٠٢٠، كى نستكمل الاطلاع على العواقب الوخيمة التى رصدتها وحللتها بدقة تلك الدراسة الكاشفة.