ارفعوا أيديكم عن إفريقيا
أمام الجموع التى احتشدت لسماعه فى حديقة «قصر الأمة»، بحضور الرئيس الكونغولى فيليكس تشيسكيدى، أدان بابا الفاتيكان، «الاستغلال» الذى تتعرّض له قارة إفريقيا بسبب «الاستعمار الاقتصادى الذى حلّ مكان الاستعمار السياسى»، وفى خطبته الثانية، خلال القداس الاحتفالى، فى مدينة كينشاسا، قال إن «سموم الجشع لطّخت الماس الإفريقى بالدماء، فى مأساة مستمرة يغمض عنها العالم عينيه ويصمّ آذانه ويكمّم فمه».
من جمهورية الكونغو الديمقراطية، توجّه البابا، أمس الجمعة، إلى جنوب السودان، التى استقلت عن السودان، سنة ٢٠١١، ويشكّل المسيحيون ٥٢٪ من تعداد سكانها، وتقع فيها اشتباكات دموية، بشكل منتظم، بين القبائل المتناحرة، مع أن الطرفين الرئيسيين المتصارعين قاما بتوقيع اتفاقية سلام فى سبتمبر ٢٠١٨، وتقاسم زعيماهما السلطة، واستضاف البابا فى السنة التالية خلوة روحية لهما، قام خلالها بتقبيل قدميهما جاثيًا، ومتوسلًا إليهما، لكى يتحاورا ويتوصلا إلى حلول تنهى الصراعات.
الصراعات المسلحة فى جمهورية الكونغو الديمقراطية، سببها الأساسى هو السيطرة على المناجم، التى تزوّد كبرى الشركات العالمية بالمعادن اللازمة للصناعات التكنولوجية المتطورة، إذ تنتج الدولة الشقيقة حوالى ٧٠٪ من الكوبلت، وهو عنصر أساسى فى إنتاج بطاريات الليثيوم، ولديها أيضًا ٧٠٪ من الكولتان، وهو عنصر مهم لتصنيع التليفونات المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، كما تعد أكبر منتج للنحاس فى إفريقيا، وتشير التقديرات، بشكل عام، إلى أن لديها ما قيمته ٢٤ تريليون دولار من الموارد المعدنية غير المستغلة. وعليه، شدّد البابا فرنسيس، فى خطبته الثانية، على أن «القارة الإفريقية ليست منجمًا معروضًا للاستغلال، ولا أرضًا مستباحة للنهب»، وقال مخاطبًا لصوص ثروات القارة السمراء، أو مصاصى دماء شعوبها: ارفعوا أيديكم عن جمهورية الكونغو الديمقراطية.. ارفعوا أيديكم عن إفريقيا.
تلك هى الزيارة الخارجية الأربعون للبابا فرنسيس منذ وصوله إلى السدة البابوية، سنة ٢٠١٣، والخامسة له فى إفريقيا، التى يوليها اهتمامًا خاصًا ويردد دائمًا أنها الأقرب إلى قلبه والأكثر احتياجًا للعناية. ومنذ استقباله الرئيس عبدالفتاح السيسى، سنة ٢٠١٤، فى بيته وليس فى القصر البابوى، وزيارة شيخ الأزهر له، سنة ٢٠١٦، ثم زيارته مصر فى ٢٠١٧، تعدّدت زيارات البابا لدول المنطقة، وتكررت لقاءاته ومكالماته التليفونية مع الإمام الأكبر، الذى عرفنا منه أنهما «حين اجتمعا، ومنذ اللقاء الأول، شعر كل منهما بأنه يعرف صاحبه منذ سنين عدة، ثم ما لبثت القلوب أن التقت على المودة المتبادلة وعلى الصداقة والإخلاص».
فى سبتمبر ٢٠١٩، قام البابا فرنسيس بزيارة تاريخية إلى ثلاث دول إفريقية: موزمبيق، مدغشقر وموريشيوس. وفى فبراير من السنة نفسها، كان أول حبر أعظم يزور دولة الإمارات، وهناك أطلق مع الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وثيقة «الأخوة الإنسانية»، التى قدمت نموذجًا متميزًا لما ينبغى أن يكون عليه حوار الأديان والحضارات من احترام متبادل وتأثير فعلى فى علاقات الشعوب.
قداسة البابا والإمام الأكبر، تشاركا أيضًا فى «ملتقى البحرين لحوار الشرق والغرب من أجل التعايش الإنسانى»، الذى عقده، «مركز الملك حمد العالمى للتعايش السلمى»، بالتعاون مع «مجلس حكماء المسلمين»، فى نوفمبر الماضى. وفى الجلسة الختامية للملتقى، دعا البابا دول العالم إلى تحويل الإنفاق العسكرى الضخم إلى استثمارات لمحاربة الجوع ونقص الرعاية الصحية والتعليم. كما تحدث الدكتور أحمد الطيب عن ضحايا حروب «اقتصاد السوق»، منتقدًا تجارة الأسلحة الثقيلة والفتاكة وتصديرها لدول العالم الثالث وما يستلزمه ترويجها من تصدير للنزاع الطائفى والمذهبى وتشجيع الفتن وزعزعة الاستقرار.
.. وتبقى الإشارة إلى أن قادة دول القارة السمراء، كانوا قد تعهدوا عشر سنوات، بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، التى تغير اسمها، لاحقًا، إلى الاتحاد الإفريقى، بـ«إنهاء جميع الحروب فى إفريقيا بحلول سنة ٢٠٢٠»، وأطلقوا مبادرة «إسكات البنادق»، غير أن ذلك لم يحدث، ولم تتمكن دول القارة من الالتزام بالإطار الزمنى المحدد للمبادرة، أو بخارطة الطريق التى وضعها الاتحاد، بسبب ممارسات لصوص ثروات القارة السمراء، أو مصاصى دماء شعوبها، الذين يعرفهم القاصى والدانى.. والواقف بينهما.