أفندينا.. والرواية التاريخية
رواية "أفندينا"، للكاتب محسن الغمري، قد صدرت عام 2021، عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر.
محسن الغمري، كاتب روائي متحقق ومتمكن من أدواته الفنية، صدر له العديد من الأعمال الروائية بينها: "وثبات طويلة عالية" و"حكاية قبل الموت" و"ربما ذات يوم" و"فاطمة وبلانش". ومجموعه القصصية "القفز فوق السحاب".
وقبل أن نتطرق لموضوع الرواية، نلقي نظرة على فكرة السرد التاريخي أو الرواية التاريخية. السرد التاريخي والحكي الروائي ينبعان من نبع واحد، فإنهما يؤديان ويقودان إلى نفس الهدف الثقافي والاجتماعي، لأن الرغبة في المعرفة هي أساسًا رغبة إنسانية وغريزية لدى البشر. وإذا كان السرد التاريخي يلبي رغبة الإنسان على مستوى الفرد وعلى مستوى النوع في معرفة ما جرى في الماضي، ومعرفة أصول الأشياء والظواهر والجماعات البشرية، فإن الحكي الروائي يحقق المطالب الإنسانية في المتعة والمعرفة معًا. ولعل هذا مما يجعلنا نقول إن التاريخ يحمل في بنيته جزءًا روائيًا مهمًا.
وعلى ذلك فإن الرواية التاريخية نوع من الأدب يجسد أقدم خاصية من خصائص الإنسان وهي الرغبة في الحكي، وربما يسميها البعض النميمة، وهو ما أدى إلى ظهور نوع من الحكي أطلقوا عليه اسم الرواية، كان ولا يزال الأجمل والأقوى والأكثر انتشارًا بين الأنواع الأدبية. وهو ما جعل الناقد الكبير الدكتور جابر عصفور وغيره، يلقون على عاتق الرواية مسئولية رئيسية في محاولات النهضة العربية.
وتعتبر الرواية التاريخية من أشكال الرواية الحديثة التي تصف بشكل مباشر الواقع التاريخيّ والتحولات المفصلية في المجتمع بصفة عامة، من خلال إعادة سرد التاريخ بالخيال الروائي في الأحداث، وتمتدّ جذور الرواية التاريخية العربية إلى الحكايات الشعبية والسير والأساطير التي دوّنت في فترات توسع الدولة الإسلامية، ثمّ عادت لِتُكتب بالشكل الحديث بعد انتقال فنّ الرواية إلى اللغة العربية في القرن التاسع عشر.
جرى الاتفاق على أنّ الرواية التاريخيّة عمل فنيّ يتّخذ من التاريخ مادة للسرد، ولكن دون النقل الحرفيّ له؛ حيث تحمل الرواية تصوّر الكاتب عن المرحلة التاريخيّة وتوظيفه هذا التصوّر في التعبير عن المجتمع أو الإنسان في ذلك العصر، أو التعبير عن المجتمع في العصر الذي يعيشه الروائي ولكنه يتخّذ من التاريخ ذريعة وشكلاً مغايراً للحكي.
تخبرنا رواية "أفندينا" للكاتب محسن الغمري، على لسان شاهد عيان، هو بطل الرواية في نفس الوقت، الشيخ صفاء الدين، كاتب ديوان الوالي محمد علي ومن خلفه من حكام الأسرة الخديوية عباس باشا، وتولي منصب باش كاتب ديوانه، فأخبرنا عن الكثير مما لا نعلمه عن شخصية هذا الوالي، من صفات وأعمال تسببت في إثارة الكثير من اللغط عن حقبة حكمه مصر. من خلال الفترة الزمنية التي تبدأ من عام 1805 ولمدة أكثر من أربعين عاما.
الشخصية المحورية فيها هو والي مصر عباس حلمي الأول، الذي تولى حكم مصر بعد وفاة عمه إبراهيم باشا، قبيل انتهاء عام 1848، حاول الراوي أن يقدم لنا مذكرات ووثائق عديدة ومفتعلة لوقائع وأفعال ليقنعنا بحقيقتها.
حكم عباس باشا مصر بعد موت عمه إبراهيم باشا، وفي القرب من نهاية حياة جده محمد علي، الذي أقعده المرض، والذي بعد موته طالبت أسرته بكل ما ترك من أرض ومال ومجوهرات، لكن عباس حلمي رفض قائلًا: إن كل هذه الأشياء هي ملك لمصر، وليست تركة محمد علي لأبنائه، ثار أفراد الأسرة، وعلى رأسهم "نازلي هانم- سعيد باشا- حليم باشا" أبناء محمد علي، رافضين ما ذهب إليه عباس حلمي، وشرعوا في تدبير مؤامرة لإزاحة عباس حلمي من ولاية مصر، ليأخذها من بعده محمد سعيد باشا.
تكشف الرواية عن الكثير من الأشياء المسكوت عنها من الأفعال والتصرفات والأخبار التي لم يتناولها المؤرخون في كتب التاريخ عن شخص وأعمال الوالي عباس حلمي، الذي تخلى عنه التاريخ ونسي الحديث والإبلاغ عن قدراته ومميزاته الرفيعة كإداري، كانت له مبادئ ونظم في الحكم والاقتصاد، فقد كان عباس بحق يمثل آخر الولاة، حسب مفهوم السلطة المطلقة المطبقة من أجل المصالح التي مثلها محمد علي وسيظل يمثلها إلى الأبد.
لجا محسن الغمري إلى افتعال تلك الأشياء كضرورة فنية لتأكيد حقيقة وبنية السرد وأدوار الشخصيات في النص والزمن الروائي، وتأكيد علاقته بخيال الراوي وجنوح السارد للانكفاء، وحيث الاثنان يختلفان في كل من وظيفتي السرد، والحكي.
وقد نجح الكاتب في تصوير خياله الروائي، وإنزاله على الوقائع التي ذكرها ليؤكد تاريخًا غير مكتوب إلا في هذا النص الروائي .