حرب الوثائق بين إدارتين أمريكيتين
كلما اقترب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة، التى تحتل رقم الستين فى تاريخ انتخاب رئيس الولايات المتحدة، زادت وتنامت المفاجآت التى ستقتحم حلبة الصراع ما بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى.
تحل تلك المنافسة العام المقبل، تحديدًا فى نوفمبر ٢٠٢٤، هذا فى عموم البلدان يبدو أمرًا اعتياديًا فى جولات التنافس الانتخابى، لكنه يكتسب بالطبع زخمًا إضافيًا بين المتنافسين عندما يكون السباق للفوز بمقعد الرئاسة الأمريكية. لكن فى حالة الجولة التاسعة والخمسين السابقة التى جرت بين جو بايدن ودونالد ترامب نوفمبر ٢٠٢٠، كان الأمر استثنائيًا بكل المقايس، بدأت بشراسة المنافسة مع حالة استقطاب حاد غير معتادة على ما بدت عليه فى المجتمع الأمريكى. وانتهت بعد مخاض عسير بإعلان فوز جو بايدن بنسبة فارق ضئيلة، حيث حصد ما يقرب من ٥١٪ من الأصوات فى مقابل ٤٦٪ تقريبًا لصالح دونالد ترامب، ليصبح بعدها مشهد اقتحام مبنى الكونجرس أغرب وأخطر ختام لتلك الجولة الانتخابية.
ما دفع إلى توصيف المشهد بالأخطر أن كبار السياسيين الأمريكيين ومفكريها استشعروا بكثير من القلق، وعبروا عن ذلك صراحة فى كتابات ولقاءات متلفزة وأحاديث منشورة، جميعها تناول حالة «انقسام» تنامى كى يصبح شرخًا أفقيًا أصاب النخبة السياسية الأمريكية، وامتد ليشمل جانبًا كبيرًا من المجتمع، حتى بدا مشهد التنافس وقد استمر حاضرًا لما بعد العملية الانتخابية.
وهناك من يرى أن استثنائية ما جرى تمثلت بصورة جلية، فى بقاء مشهد المنافسة الشرسة قائمًا طوال سنوات حكم الرئيس بايدن السابقة، وهى مرشحة بقوة للاستمرار فى حال تأكد نزول الخصمين للجولة الستين المقبلة، وكلاهما أعلن هذا بشكل مبدئى حيث لم يظهر حتى الآن ما يمكن اعتباره تغييرًا دراماتيكيًا داخل حزبيهما على الأقل. لعل أشهر وقائع الصراع الذى وصف بالممتد ولم تخفت حدته طوال فترة ما بعد الانتخابات الماضية، هى قضية العثور على وثائق سرية تخص الدولة فى أحد منازل الرئيس السابق دونالد ترامب، وخضوعه إلى بعض من الاتهامات المبدئية حول قانونية احتفاظه بتلك الوثائق بعد تركه لمنصبه فى البيت الأبيض.
قبل الاطمئنان إلى نتائج تحقيق كهذا متشابك للغاية وتعقيداته القانونية والسياسية لا حصر لها، كانت المفاجأة التى تؤكد أن الإثارة لا سقف لها بالفعل، هى ظهور وقائع مماثلة بحق الرئيس الحالى جو بايدن تجعل ذات التهمة تلاحقه هو الآخر خلال الأشهر المقبلة التى تفصل كليهما عن محطة خوض المنافسة الانتخابية. فما أعلن عنه حتى الآن، أن أكثر من «١٠ وثائق» بعضها تصنيفه «سرى للغاية» عثر عليها فى مكتب خاص بواشنطن وبمنزل جو بايدن فى ديلاوير، وقد وضع المحققون أيديهم عليها وأبلغوا إدارة المحفوظات والسجلات.
بدا الرئيس بايدن متعاونًا مع جهات التحقيق، حسب توصيفهم، خاصة أنه مباشرة بعد تلك الواقعة تعاون المحامون الشخصيون له مع إدارة المحفوظات ووزارة العدل، لضمان أن أى سجلات تخص إدارة أوباما وبايدن فى حيازة المحفوظات بشكل مناسب. لم يكشف حتى الآن عن الموعد الذى تم العثور على تلك الدفعة من الوثائق فيه، لكن التعاون بين محامى الرئيس بايدن امتد ليشمل فحص مواقع أخرى ربما تم فيها شحن سجلات من هذا النوع، بعد مغادرة بايدن منصب نائب الرئيس عام ٢٠١٧.
التداعيات التى تنتظر الرئيس بايدن فى هذا التوقيت الحرج ستبدأ من الكونجرس الجديد بلا شك فيما يسيطر عليه الحزب الجمهورى، حيث لم يتأخر أعضاؤه فى الإعلان عن بدء تحقيقات موسعة حول الأمر ستشمل الكثيرين داخل إدارة الرئيس الحالى. كما ستستعيد الكتلة الجمهورية وغيرها القدرة على إثارة الشكوك على نحو واسع مجددًا، فيما يخص الدوافع السياسية التى هى أساس التحقيق مع الرئيس السابق دونالد ترامب.
وقد كال ترامب أوصافًا قاسية لما يجرى بحقه خلال إطلاق حملته الانتخابية، حين أشار إلى التحقيقات ضده واصفًا نفسه بأنه «ضحية للمدعين العامين الضالين، وللعفن، والفساد فى واشنطن». بالرغم من أنه يواجه اتهام العثور على ما لا يقل عن «٣٢٥ وثيقة» فى مقره السكنى بمنتجع مارالاجو، أكثر من «١٦٠ وثيقة» تصنف سرية و٦٠ أخرى تصنف «سرى للغاية». وكانت آخر الخطوات القانونية بحقهم قد وقعت فى أغسطس ٢٠٢٢، عندما أجرى مكتب التحقيقات بحثًا لاسترداد «٣٣ صندوق» من مارالاجو، بعد أن قدم محامو ترامب شهادة موثقة بأن جميع السجلات الحكومية قد أعيدت.
الرئيس جو بايدن مدرك بالطبع خطورة هذا الاتهام فى هذا التوقيت، فضلًا عن تماثله مع ما يعتبره فريقه أخطر ما يواجه منافسه دونالد ترامب من تحديات قبل خوض السباق المقبل. لذلك سارع بالحديث والتعليق للإعلام الأمريكى معتبرًا أنه «فوجئ» بأنه تم العثور على وثائق فى مقر «مركز أبحاث» يملكه فى العاصمة واشنطن، مؤكدًا أنه لا يعرف ما تحويه تلك الوثائق من مواد، لكنه بالطبع يأخذ المستندات السرية على محمل الجد.
كنائب للرئيس كان جو بايدن يتمتع بسلطة رفع السرية عن بعض الوثائق، لكنه لم يذكر فى إفادته الإعلامية أنه قام بهذا الإجراء فيما يخص تلك الموجودة فى مقر مركز الأبحاث بواشنطن، أو التى عثر عليها فى مقر إقامته بمنزل ديلاوير. فى المقابل راوغ الرئيس ترامب المحققين فى تلك النقطة، عندما ادعى أمامهم أنه رفع السرية عن بعض الوثائق التى ضبطت بحوزته، عندما كان فى منصبه ويحق له هذا الإجراء قانونًا، لكنه فى النهاية لم يقدم دليلًا على ذلك. واكتفى بوصف ما جرى فى مارالاجو بأنه «غارة» غير معلنه مسبقًا، ولم تكن ضرورية أو مناسبة.
الأحداث أكثر سخونة مما تبدو على السطح، وربما تتسبب فى تغيير كبير فى خريطة التنافس الانتخابى المقبلة، ولا تقتصر على شخصى الرئيسين، بل تمتد لتشمل الحزبين بمعظم كوادرهما، حيث يعتبرونها حربًا حقيقية لاستراد المكانة والكرامة الانتخابية، المفقودة فى تصور الجمهوريين والترامبيين منهم بالأخص. والمستحقة التى تقف فى وجه الفوضى من وجهة نظر الديمقراطيين، المتشبثين بانتصارهم لآخر مدى يمكنهم تحقيقه.