قراءة ألمانية مهمة للنظام العالمى الجديد «٤»
الجزء الأخير من المقال المهم للمستشار الألمانى أولاف شولتس، الذى خص به المطبوعة الأمريكية «فورين آفيرز» بعنوان «التحول الجذرى فى النظلم العالمى»، نتناول ما ألقى فيه من أضواء كاشفة على التحولات الدولية التى وصفها بـ«الجذرية» فى أكثر من موقع بالمقال. اللافت أن المستشار الألمانى فى ذات السياق اختار للمقال عنوانًا فرعيًا هو الآخر له دلالة ليست بخافية، «كيفية تجنب حرب باردة جديدة فى عصر متعدد الأقطاب».
الجزء الأخير تناول ما أسماه، «أسوأ كابوس يراود بوتين» حين أراد تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ، وتقسيم العالم إلى كتل من القوى العظمى والدول التابعة. عوضًا عن ذلك، لم تؤد حربه سوى إلى تقدم الاتحاد الأوروبى فى مجلسه يونيو ٢٠٢٢، بقرار منح أوكرانيا ومولدوفا صفة «دولتين مرشحتين للعضوية»، وأكد أن مستقبل جورجيا يكمن فى أوروبا. كذلك جرى الاتفاق على جعل انضمام جميع الدول الست فى غرب البلقان إلى الاتحاد الأوروبى حقيقة واقعة. وذلك اعتبره شولتس هدفًا يلتزم به شخصيًا. لهذا السبب، أعاد إحياء ما يسمى بـ«عملية برلين» فى غرب البلقان، التى ترمى إلى تعميق التعاون فى المنطقة، وتقريب بلدانها وإعدادها للاندماج فى الاتحاد الأوروبى. الهدف واضح ويتجسد باتحاد أوروبى سيتألف من أكثر من «٥٠٠ مليون» مواطن حر، سيمثل أكبر سوق داخلية فى العالم، وسيضع معايير عالمية فى شأن التجارة والنمو وتغير المناخ وحماية البيئة. حيث سيكون بمثابة عائلة من الديمقراطيات المستقرة، تتمتع برفاهية اجتماعية وبنية تحتية عامة لا مثيل لها.
مكونات هذا المجتمع يقرر المستشار الألمانى بأنه سيكون أبرز تحولات ما بعد الحرب الروسية، فيما يجب عليه التغلب على النزاعات القديمة وإيجاد حلول جديدة. الهجرة الأوروبية والسياسة المالية وضعهما مثالين على ذلك، حيث سيستمر الناس فى القدوم إلى أوروبا، وأوروبا بحاجة إلى مهاجرين. لذلك يجب على الاتحاد الأوروبى أن يبتكر استراتيجية للهجرة تكون عملية وتتوافق مع قيمه. ما يتعلق بالسياسة المالية، أنشأ الاتحاد صندوقًا للتعافى والمرونة سيساعد فى مواجهة التحديات الحالية التى يفرضها ارتفاع أسعار الطاقة. كذلك ينبغى على الاتحاد أن يتخلص من تكتيكات «العرقلة الأنانية» فى عمليات صنع القرار، وذلك من خلال إلغاء قدرة الدول الفردية على استخدام حق النقض ضد بعض الإجراءات. ومع توسع الاتحاد الأوروبى وتحوله إلى لاعب جيوسياسى، سيكون اتخاذ القرار السريع هو مفتاح النجاح. لهذا السبب اقترحت ألمانيا أن يجرى تدريجيًا تعميم اتخاذ القرارات بالتصويت بـ«الغالبية» على المجالات التى لا تزال تخضع لقاعدة الإجماع، على غرار الضرائب والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى. استكمالًا، ينبغى أن تستمر أوروبا فى تحمل مسئولية أكبر فى موضوع أمنها الخاص، إذ تحتاج إلى نهج منسق ومتكامل من أجل بناء قدراتها الدفاعية. مثلًا، تستخدم جيوش الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى عددًا كبيرًا من أنظمة الأسلحة المختلفة، ما يؤدى إلى أوجه قصور عملية واقتصادية. وبهدف معالجة هذه المشكلات، يجب تغيير الإجراءات البيروقراطية الداخلية، كما يتطلب قرارات سياسية شجاعة.
ثمة مجال تحتاج أوروبا إلى إحراز تقدم فيه بشكل عاجل، يتمثل بالدفاع فى المجالين الجوى والفضائى. لهذا السبب ستعمل ألمانيا على تعزيز دفاعها الجوى خلال السنوات المقبلة، كجزء من إطار عمل حلف «الناتو»، من خلال اكتساب قدرات إضافية. وقد فتح هذا الباب لجيراننا الأوروبيين، وكانت النتيجة «مبادرة الدرع الجوى الأوروبى». انضمت إليها «١٤ دولة» أوروبية أخرى فى أكتوبر ٢٠٢٢. فى الواقع، سيكون الدفاع الجوى المشترك فى أوروبا أكثر كفاءة وفعالية بالمقارنة مع الدفاع المنفرد لكل دولة على حدة، ويقدم ذلك مثلًا بارزًا عما يعنيه تعزيز الركيزة الأوروبية داخل «الناتو». وإن ظل حلف «الناتو» الضامن النهائى للأمن الأوروبى الأطلسى، وتزداد قوته بانضمام دولتين مزدهرتين إلى أعضائه، فنلندا والسويد. كذلك يضحى «الناتو» أشد قوة حينما يتخذ أعضاؤه الأوروبيون بشكل مستقل، خطوات نحو توافق أكبر بين هياكلهم الدفاعية ضمن إطار الاتحاد الأوروبى.
لم ينته التاريخ مع «الحرب الباردة»، وفق ما توقع بعض الناس. ورغم ذلك، فالتاريخ لا يعيد نفسه، يفترض كثيرون أننا على شفا حقبة ثنائية القطبية فى النظام الدولى، ويرون اقتراب فجر حرب باردة جديدة ستضع الولايات المتحدة فى مواجهة الصين. المستشار بوضوح يقرر أنه لا يوافق هذا الطرح، حيث يرى ما نشهده يجسد نهاية مرحلة استثنائية من العولمة، ويعنى ذلك أنه تحول تاريخى تسارع بسبب الصدمات الخارجية على غرار جائحة كورونا والحرب الروسية، لكنه لا يعد نتيجة لذلك بشكل كامل. فخلال تلك المرحلة الاستثنائية، شهدت الولايات المتحدة وأوروبا ٣٠ عامًا من النمو المستقر ومعدلات التوظيف المرتفعة، ونسب التضخم المنخفض، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الحاسمة فى العالم، وهو دور ستحتفظ به فى القرن الحادى والعشرين. فى ذات المرحلة التى أعقبت «الحرب الباردة»، أصبحت الصين أيضًا لاعبًا عالميًا، على غرار ما كانت عليه فى فترات سابقة طويلة من تاريخ العالم. بيد أن صعود الصين الآن لا يستدعى عزل بكين أو كبح التعاون معها. وفى الوقت نفسه، لا تبرر القوة المتنامية للصين مطالباتها بالهيمنة فى آسيا وخارجها، فلا يوجد بلد يمثل «الفناء الخلفى» لأى دولة أخرى، وينطبق ذلك على أوروبا بقدر ما ينطبق على آسيا وكل المناطق الأخرى.
فى الوقت نفسه، بينما تتكيف الصين ودول أمريكا الشمالية وأوروبا مع الحقائق المتغيرة فى المرحلة الجديدة من العولمة، فإن عددًا كبيرًا من البلدان فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، استطاعت تحقيق نمو استثنائى من خلال إنتاج السلع والمواد الخام بتكاليف منخفضة، تحولت الآن تدريجيًا إلى دول أكثر ازدهارًا لديها طلبها الخاص على الموارد والسلع والخدمات. ولهذه المناطق كل الحق فى اغتنام الفرص التى تتيحها العولمة، والمطالبة بدور أقوى فى الشئون العالمية، بما يتماشى مع أهميتها الاقتصادية والديموغرافية المتزايدة. ولا يرى المستشار الألمانى أن هذا يشكل تهديدًا للمواطنين فى أوروبا أو أمريكا الشمالية. على النقيض؛ ينبغى أن نشجع مشاركة تلك المناطق بشكل أكبر فى النظام الدولى واندماجها فيه. إذ يشكل ذلك أفضل طريقة للمحافظة على استمرارية النظام الدولى المتعدد الأطراف، فى عالم متعدد الأقطاب.
أظن أن حديث أولاف شولتس على هذا النحو البانورامى، لم يتطرق له أحد الكبار بهذا الوضوح والشفافية، من هنا اكتسب تلك الأهمية الاستثنائية التى ظهرت مع نهاية العام المنصرم، وفى ظل تلك التحولات الجذرية التى أفاض فى تفسيرها والتأكيد عليها.