التكية المصرية
منذ ٨٠ سنة بالتمام والكمال، تحديدًا سنة ١٩٤٣، صدرت الطبعة الأولى من كتاب «بناة الإسلام: محمد وخلفاؤه» للصحفى المصرى إمام شافعى أبوشنب، الذى درس الاقتصاد السياسى فى جامعة فيينا، ووصف رحلاته السنوية إلى المملكة العربية السعودية فى مواسم الحج، فى كتب متعاقبة من بينها «لمحات إلى الحياة فى الأرض الطاهرة»، و«فى بيت الله الحرام»، وهذا الكتاب.
بعد أن تحدث «عن البلاد المقدسة ونشأة الإسلام فيها، وبناة هذا الدين الحنيف، وما أعقب ذلك من قيام الإمبراطورية العربية التى سادت الأقطار والأمصار فى سنوات قلائل منذ نشأتها»، رأى «أبوشنب» أن يتحدث عن المملكة العربية السعودية «التى بدت العدالة فى حكمها، بل تلألأ سناؤه»، لافتًا إلى أن أهل الحجاز، وقت وصوله إلى مكة، كانوا يرقبون قدوم باقى أفواج الحجاج المصريين بفارغ الصبر، لأن المصريين يُحدثون انتعاشًا عظيمًا فى الأسواق أكثر من غيرهم من حُجاج الأمم الأخرى.
فى هذا السياق، توقّف أبوشنب عند «التكية المصرية»، المكان الذى كان يذهب إليه فى أغلب الأحيان بعد الفراغ من الصلاة، أو إنجاز الأعمال؛ لينال قسطًا من الراحة، أو يشرب فنجانًا من القهوة المصنوعة على الطريقة المصرية، أو ليتسامر مع إخوانه ومواطنيه أعضاء الجالية المصرية، التى تتألَّف من طائفة الأساتذة المدرسين الذين استعارتهم الحكومة السعودية من مصر للتدريس فى مدارسها، ومن أطباء التكية التابعين لوزارة الأوقاف، ومن الأطباء المنتدبين للخدمة فى الحكومة السعودية، ومن المهندسين المشتغلين بإصلاح الطرق وتخطيطها، وتشييد القصور الملكية، إلى غير ذلك من المشروعات الإصلاحية الواسعة.
التكية المصرية بناها محمد على، سنة ١٨٢٢ لخدمة فقراء الحرم المكى، وكان يرسل إليها كميات وفيرة من القمح والأرز واللحوم إضافة لرواتب الناظر والعمال القائمين عليها. ولاحقًا أقام نجله إبراهيم باشا تكية أخرى فى المدينة المنورة. وفى كتابه، أشار أبوشنب إلى أن «التكية المصرية» كانت تنحر يوميًّا عشرات الخراف، وتخبز عشرات «الجوالات» من الدقيق، مؤكدًا أن قلبه كان «يخفق ابتهاجًا وفرحًا وغبطة» حين يشهد فى كل صباح «تلك الجموع الحاشدة المتزاحمة بالمناكب على أبواب التكية المصرية فى انتظار الحساء واللحم والخبز، أو الأرز واللحم والخبز». وفى سياق آخر، أشار إلى أن ذلك المنظر «كان يأخذ بمجامع قلبه» حين يخرج من «باب الصفا» ويشهد «التكية» وما أمامها من تلك «الكتل البشرية المتجمعة تجمُّع النمل»!.
اللافت، أن أبوشنب كتب أن «بين المصريين مئات من ذوى الغنى واليسار، ينفقون باليمين ويُبعثرون باليسار مئات الألوف من الجنيهات فى الترف والنعيم والملاذِّ والمباذل والمهازل وليس فى أرض الحجاز الأرض الطاهرة أثر واحد يدل على بر المصريين وإحسان المصريين وخير المصريين سوى هذه التكية المصرية»، ثم انتقد «الأغنياء الموسرين» الذين كان بوسعهم أن «يؤسسوا فى كل شبر من أرض الحجاز مأثرة من المآثر التى يذكرها لهم التاريخ كما ذكر وما زال يذكر مآثر جد الأسرة العلوية، المغفور له محمد على باشا الكبير». غير أنه أشاد بـ«جماعة مساعدة فقراء مكة والمدينة، وعلى رأسها صاحب السعادة حسن كامل الشيشينى، ومحمد بك الطوبجى، وعبدالملك بك المصلحى»، التى أكد أنها «تبذل مسعاها الخيرى الدائم فى استنهاض الأغنياء فى سبيل الجود والبر بأهل الحجاز». كما طالب وزارة الصحة، التى كانت تنفق «الآلاف من الجنيهات على بعثة تضم أطباء وصيادلة وتمورجية وأدوية وعقاقير، فى موسم الحج، بوضع هذا الاعتماد المالى تحت يد وزارة الأوقاف لتضيفه إلى الاعتماد المخصص للتكية المصرية، التى تضم أطباء يقومون بمعالجة أهل الحجاز والمصريين والجنسيات الأخرى فى موسم الحج وفى غير موسم الحج.
.. وتبقى الإشارة إلى أن سنة ٢٠٢٣، التى تحل فيها الذكرى الثمانون لصدور الطبعة الأولى من كتاب «بناة الإسلام: محمد وخلفاؤه»، تحلّ فيها، أيضًا، الذكرى الأربعون لقيام السلطات السعودية، سنة ١٩٨٣، بهدم التكية المصرية، التى كان اسمها قد تغير، بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، إلى المبرة المصرية.