قراءة ألمانية مهمة للنظام العالمى الجديد «2»
استكمالًا لما كتبه المستشار الألمانى أولاف شولتس بنفسه، كرؤية ألمانيا لما سماه «تحول جذرى» فى النظام العالمى، والتى اختار لها المطبوعة الأمريكية الشهيرة «فورين آفيرز» كى تكون المنصة التى يعرض من خلالها العديد من قراءات وهواجس الدولة الألمانية للحظة الراهنة المشحونة بالأزمات، والتى استدعت تسميتها من أكثر من مفكر سياسى كبير بـ«التحول» أو بـ«التشكيل الجديد» لنظام عالمى يختمر على وقع الحرب الروسية الأوكرانية التى اقتحمت جميع معادلات التوازن السابقة على اندلاعها.
... يرى المستشار الألمانى أنه خلال السنوات الثمانى التى أعقبت الضم غير القانونى لشبه جزيرة القرم، واندلاع الصراع فى شرق أوكرانيا، ركزت ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون والدوليون فى «مجموعة الدول السبع الكبرى»، على حماية السيادة والاستقلال السياسى فى أوكرانيا، ومنع مزيد من التصعيد الروسى واستعادة السلام فى أوروبا والحفاظ عليه. واختارت ألمانيا نهجًا متمازجًا؛ جمع بين الضغط السياسى والاقتصادى والإجراءات التقييدية على روسيا من جهة، وبين الحوار معها من جهة ثانية. ومن ثم انخرطت ألمانيا جنبًا إلى جنب مع فرنسا، فيما سمى «صيغة النورماندى» التى أدت إلى «اتفاقات مينسك» والإجراءات المرافقة لها، كذلك دعت روسيا وأوكرانيا إلى الالتزام بوقف إطلاق النار واتخاذ عدد من الخطوات الأخرى.
وبرغم النكسات وانعدام الثقة بين موسكو وكييف، استمرت ألمانيا وفرنسا فى تنفيذ الإجراءات المنصوص عليها فى الاتفاقيتين، بيد أن روسيا الرجعية جعلت نجاح الدبلوماسية أمرًا مستحيلًا، ليؤدى الهجوم الروسى الوحشى المباغت على أوكرانيا فى فبراير ٢٠٢٢، إلى ظهور واقع جديد تمامًا يتمثل بعودة الإمبريالية إلى أوروبا، إذ تستخدم روسيا بعضًا من أبشع الأساليب العسكرية فى القرن العشرين، تتسبب فى معاناة لا توصف فى أوكرانيا.
وبالفعل لقى عشرات الآلاف من الجنود والمدنيين الأوكرانيين حتفهم، وأصيب كثيرون بجروح أو صدمات نفسية. وعلى نحو موازٍ اضطر ملايين المواطنين الأوكرانيين إلى الفرار من منازلهم، بحثًا عن ملاذ فى بولندا ودول أوروبية أخرى، وتوجه مليون منهم إلى ألمانيا وحدها. وجراء القصف المدفعى والصواريخ والقنابل الروسية على المنازل والمدارس والمستشفيات التى تحولت لأنقاض، فى ماريوبول وإيربين، وخيرسون وإيزيوم، ستظل تلك الأماكن تذكر العالم بجرائم روسيا إلى الأبد، حيث ينبغى تقديم الجناة فيها إلى العدالة. ومن ثم امتد تأثير الحرب الروسية إلى أبعد من أوكرانيا، فحينما أصدر بوتين الأمر بالهجوم، حطم بنية السلام الأوروبية والدولية التى استغرق بناؤها عقودًا.
تحدت روسيا تحت قيادة بوتين أبسط مبادئ القانون الدولى على النحو المنصوص عليه فى ميثاق الأمم المتحدة، بما فيها التخلى عن استخدام القوة كوسيلة من وسائل السياسة الدولية، والتعهد باحترام استقلال جميع الدول وسيادتها ووحدة أراضيها بصفتها قوة إمبريالية، تسعى روسيا الآن إلى إعادة رسم الحدود بالقوة وتقسيم العالم مرة أخرى، إلى كتل ومناطق نفوذ.
لذلك يجب على العالم ألا يسمح لبوتين بالحصول على ما يريده، كذلك ينبغى وقف الإمبريالية الانتقامية التى تنتهجها روسيا، إذ يرى المستشار شولتس أن الدور الحاسم لألمانيا يتمثل الآن فى تعزيز مكانتها كواحدة من مزودى الأمن الرئيسيين فى أوروبا، من خلال الاستثمار فى جيشها وتقوية صناعة الدفاع الأوروبية، وزيادة وجودها العسكرى على الجناح الشرقى لحلف «الناتو»، فضلًا عن تدريب القوات المسلحة الأوكرانية وتجهيزها. لهذا فهو يذكر أن دور ألمانيا الجديد سيتطلب ثقافة استراتيجية جديدة، سيتجسد فى استراتيجية الأمن القومى التى ستتبناها الحكومة بعد بضعة أشهر من الآن. على مدى العقود الثلاثة الماضية، اتخذت القرارات المتعلقة بأمن ألمانيا وتجهيزات القوات المسلحة للبلاد، على خلفية أن أوروبا تنعم بالسلام. أما الآن فمن وجهة النظر الألمانية السؤال التوجيهى المطروح سيكون متمحورًا حول التهديدات الآتية من روسيا، التى يتوجب عليها بشكل مباشر، هى وحلفاؤها مواجهتها فى أوروبا. وتشمل تلك التهديدات الهجمات المحتملة على أراضى الحلفاء، والحرب الإلكترونية، وحتى الفرصة الضئيلة لهجوم نووى، وقد هدد به بوتين بشكل واضح نوعًا ما.
ويؤكد المستشار الألمانى بوضوح أن الشراكة عبر الأطلسى تعد أساسية فى مواجهة تلك التحديات، وستظل كذلك. إضافة إلى ذلك، يتطلب إرساء شراكة متوازنة ومرنة عبر الأطلسى أن تؤدى ألمانيا وأوروبا دورًا نشطًا. ففى أعقاب الهجوم الروسى على أوكرانيا، تمثل أحد القرارات الأولى التى اتخذتها حكومتى بتخصيص صندوق خاص مقداره «١٠٠ مليار» دولار تقريبًا لتجهيز قواتنا المسلحة «بوندسفير» بشكل أفضل، وقد ذهبنا إلى حد تغيير دستورنا من أجل إنشاء ذلك الصندوق. ويمثل هذا القرار أبرز تغيير فى السياسة الأمنية الألمانية منذ تأسيس الـ«بوندسفير» فى عام ١٩٥٥، الهدف المنشود هو جيش ألمانى يمكننا الاعتماد عليه نحن وحلفاؤنا. من أجل تحقيق ذلك؛ ستستثمر ألمانيا اثنين فى المائة من ناتجنا المحلى الإجمالى فى دفاعنا، وتعبر هذه التغييرات عن عقلية جديدة فى المجتمع الألمانى. اليوم تتفق غالبية كبيرة من الألمان على أن بلادهم بحاجة إلى جيش قادر، ومستعد لردع خصومها والدفاع عن نفسها وعن حلفائها. فمنذ بدء الغزو الروسى، عززت ألمانيا دعمها المالى والإنسانى لأوكرانيا وساعدت فى تنسيق الاستجابة الدولية للحدث العالمى الأهم، أثناء توليها رئاسة «مجموعة السبع». اليوم، للمرة الأولى فى تاريخ ألمانيا الحديث، نحن نقدم الأسلحة فى حرب مستعرة بين دولتين، لذلك أكدت بوضوح مرارًا على أمر واحد مفاده أن ألمانيا ستواصل جهودها الرامية إلى دعم أوكرانيا ما دامت الحاجة تقتضى ذلك. حاضرًا يتجسد أشد ما تحتاج إليه أوكرانيا بالمدفعية وأنظمة الدفاع الجوى، وذلك بالضبط ما تقدمه ألمانيا بالتنسيق الوثيق مع حلفائنا وشركائنا.
وكان اللافت أن يتناول المستشار الألمانى فى طيات مقاله عديدًا من البيانات التفصيلية، التى قصد إعلانها لمن يهمه الأمر، وهى بالطبع تجعل مجمل الصورة أكثر وضوحًا. فالدعم الألمانى وفق ما كتبه شمل الأسلحة المضادة للدبابات وناقلات الجنود المدرعة والمدافع والصواريخ المضادة للطائرات وأنظمة الرادار المضادة للبطاريات. كذلك ستقوم ألمانيا بتدريب ما يصل إلى «٥٠٠٠ جندى أوكرانى» فى ألمانيا، أى ما يوازى لواءً كاملًا. فى الوقت نفسه، سلمت برلين جمهوريات التشيك واليونان وسلوفاكيا وسلوفينيا، نحو ١٠٠ دبابة قتال رئيسية من الحقبة السوفياتية كى تمر إلى أوكرانيا. كذلك ستعمل على تزويد تلك البلدان بالدبابات الألمانية المجددة، وبهذه الطريقة، تتلقى أوكرانيا دبابات تعرفها القوات الأوكرانية جيدًا ولديها خبرة فى استخدامها، حيث يمكن دمجها بسهولة فى مخططات الصيانة واللوجستيات الحالية فى أوكرانيا.
تلك التفصيلات بقلم المستشار الألمانى تعكس إصرارًا على المضى قدمًا فيما تراه الدولة الألمانية لتحويل دفة المعركة، وللحفاظ على «مصالحها» التى سنتناول جوانبها المختلفة وفق ما ذكره المستشار شولتس الأسبوع المقبل بمشيئة الله.