لو أرادت واشنطن.. لفعلتها
تواصلاً مع مقال الأسبوع الماضي، نؤكد أن لا صوت يعلو فوق صوت العقل، حتى ولو غاب بعض الوقت، لأن العقل يدعو إلى السلام، والسلام يدفع نحو الأمن، وبالأمن تحيا الشعوب بعيدة عن موارد الهلاك.. لقد اقتربت بدايات فصل الشتاء، وازدادت المخاوف من التضخم الناجم عن ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، التي دفعت شعوب أوروبا إلى التظاهر ضد حكوماتها، ومليارات الدولارات من الأسلحة التي تم ضخها بالفعل إلى أوكرانيا، لمواصلة حربها أمام الروس، وعشرات الآلاف من الضحايا من كلا الجانبين.. وتشعر الولايات المتحدة وبعض حلفائها بالقلق من أن مخزوناتهم من الأسلحة، بما في ذلك بعض الذخيرة، يتم استنزافها بمعدل لا يمكن تحمله.. وقد فاق الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا هذا العام ـ الذي تجاوز الآن تسعة عشر مليار دولار ـ المساعدات الأوروبية بكثير، حتى إن مسئولا غربيا قال (نشهد مشاكل حقيقية وعملية لإحراز تقدم عسكري، ونشهد نقصاً في الذخائر).. كل ذلك دفع واشنطن للحديث عن نقطة انعطاف محتملة في الحرب، التي دخلت الآن شهرها التاسع.. وبدأ مسئولون أمريكيون كبار في دفع كييف للبدء في التفكير في محادثات السلام، في حال أوقف الشتاء زخم الحرب، بعد استعادة أوكرانيا لأجزاء من خيرسون.. ومع أن الولايات المتحدة وحلفاءها تتعهد بمواصلة دعم أوكرانيا، لكن كبار المسئولين في واشنطن بدأوا يتساءلون ـ بصوت عالٍ ـ عن مقدار الأراضي التي يمكن لأي من الجانبين الفوز بها، وبأي ثمن.
(يجب أن يكون هناك اعتراف متبادل بأن النصر العسكري، بالمعنى الحقيقي للكلمة، ربما لا يمكن تحقيقه من خلال الوسائل العسكرية، لذلك نحتاج إلى اللجوء إلى وسائل أخرى)، هكذا أوضح الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة وكبير ضباط الجيش الأمريكي، الذي أكد أن (هناك أيضاً فرصة للتفاوض).. وقد دفع احتمال عدم تحقيق أوكرانيا مكاسب كبيرة في ساحة المعركة في الأسابيع المقبلة، الولايات المتحدة وبعض المسئولين الأوروبيين، إلى التساؤل عن موعد ظهور الضغط الشعبي للمطالبة بتسوية، (نقول للأوكرانيين إن الأمر متروك لهم ليقرروا متى يفعلون ذلك.. ولكن قد يكون من الجيد القيام بذلك في وقت أقرب)، وبينما لا يعتقد المسئولون الأمريكيون أن الوقت الحالي هو الوقت المناسب، فإن البعض منهم يعتقد أن الأسابيع والأشهر المقبلة توفر فرصة للحديث عن المحادثات.
وفي نفس اليوم الذي تحدث فيه الجنرال ميلي عن فرصة لإجراء محادثات، أشار الرئيس بايدن أيضاً إلى أن الوقت قد يكون مناسباً قريباً.. وقال في البيت الأبيض (يبقى أن نرى ما إذا كان سيتم إصدار قرار، بشأن ما إذا كانت أوكرانيا مستعدة للتوصل إلى حل وسط مع روسيا أم لا.. فكلاهما سيلعقان جراحهما، ويقرران ماذا سيفعلان خلال فصل الشتاء، ويقرران ما إذا كانا سيتنازلان أم لا)، إلا أن واشنطن ترى أن كييف تحتاج ـ على الأقل ـ إلى أن تبدو منفتحة على حل تفاوضي.. وقد نقل مستشار الأمن القومي لبايدن، جاك سوليفان، هذه الرسالة إلى الرئيس فولوديمير زيلينسكي ومساعديه في كييف أوائل هذا الشهر، وقد أوصى سوليفان بأن يبدأ فريق زيلينسكي في التفكير في مطالبه الواقعية وأولوياته للمفاوضات، بما في ذلك إعادة النظر في هدفه المعلن، المتمثل في استعادة أوكرانيا لشبه جزيرة القرم، التي تم ضمها في عام 2014.
إلا أنه، ومع تحقيق القوات الأوكرانية لبعض الانتصارات على الأرض، فإن زيلينسكي وكبار مساعديه يعتقدون أن محادثات السلام مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآن ستكون بمثابة استسلام لا داعي له.. وقال بعض حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين إن التقدم الذي أحرزته أوكرانيا يترك كييف، دون سبب يذكر، للخضوع لمطالب بوتين.. وهم يعتقدون أن أوكرانيا يمكن أن تستعيد المزيد من الأراضي إذا استمرت الأسلحة الغربية في التدفق، مما يعزز موقفها في المفاوضات النهائية.. وعزز تعهد واشنطن الجديد بتقديم مساعدات أمنية أخرى بقيمة أربعمائة مليون دولار ثقة الأوروبيين في دعم الولايات المتحدة للجيش الأوكراني.
(نحن كغرب، يجب أن نكون حريصين للغاية على عدم الضغط على أوكرانيا، بشأن أي شىء، لأننا نعلم أن هذه الحرب بدأتها روسيا، ويمكن إنهاء هذه الحرب في دقيقة واحدة، إذا قررت روسيا ببساطة إنهاءها).. هكذا أكد وزير الدفاع اللاتفي، أرتيس بابريكس، وذهب مذهبه، مسئولون في بعض الدول الأوروبية، وخاصة في الشرق والشمال، الذين قالوا بأن الضغط علناً لإجراء محادثات، قد يضر بجهود أوكرانيا ويلعب على تحقيق أهداف روسيا في تقسيم الحلف.. (نحن بحاجة إلى التحدث عن تكلفة السلام)، إذا انتهت الحرب الآن، فإن (الرسالة التي سيحصل عليها الأوكرانيون هي أن معركتهم كانت بلا معنى.. والرسالة التي قد تتلقاها روسيا، هي أن هذا هو الوقت المناسب للتجديد وإعادة البناء اقتصادياً.. لا أحد يعتقد أن روسيا ستتوقف حتى تحقق هدفها الاستراتيجي).
لكن بوتين يؤكد أن روسيا منفتحة على محادثات السلام، وقال إنه إذا أمرت واشنطن زيلينسكي بالجلوس للمفاوضات، فإن كييف ستفعل ذلك.. لكن مسئولين أوروبيين وأمريكيين قالوا إنهم لا يرون مؤشرات تذكر على أن الكرملين مهتم بإجراء محادثات جادة.. وفي اجتماع لمجموعة السبع في وقت سابق من هذا الشهر، اتفق وزراء الخارجية على أن الأمر متروك لأوكرانيا، لتقرر متى تكون الظروف العسكرية والسياسية مناسبة، للسعي إلى وقف إطلاق النار ومواصلة المفاوضات، لكنهم يرون أن دعوة الكرملين لإجراء محادثات سلام، لم تكن ذات مصداقية مع استمرار بوتين في تصعيد الحرب، في الوقت الذي أوضح فيه زيلينسكي أن الشروط الأوكرانية لإجراء محادثات، تشمل إعادة السيطرة الأوكرانية على أراضيها، وتعويض كييف عن غزو موسكو، وتقديم مرتكبي جرائم الحرب إلى العدالة.
ومن الأمور الحاسمة بالنسبة للخلافات بين الحلفاء، حول كيفية السعي العاجل إلى الدبلوماسية، هي التقييمات المتباينة لاحتمال اكتساب أوكرانيا المزيد من الأرض في أشهر الشتاء المقبلة.. ويعتقد بعض حلفاء الناتو أن أوكرانيا ستكافح من أجل تحقيق اختراقات كبيرة، لأنها تهاجم المناطق الأكثر تحضراً والأقرب إلى روسيا، والتي كانت القوات الروسية موجودة فيها لفترة أطول، وكان لديها الوقت لتحصين دفاعاتها.. ولا يعتقد آخرون، أكثر ثقة في فرص أوكرانيا، أن القتال سيتوقف.. أصبحت ترسانة البلاد المتنامية من أنظمة الدفاع الجوي أكثر كفاءة في اعتراض الصواريخ والطائرات بدون طيار.. وهناك قلق بين بعض الشركاء الأوروبيين، من أن واشنطن تقنع أوكرانيا بإجراء محادثات، قبل أن تتمكن قواتها من تحقيق المزيد من المكاسب.
قال جاك سوليفان (مهمتنا هي وضعهم في أفضل وضع في ساحة المعركة، حتى عندما تكون هناك فرصة للدبلوماسية.. وإذا كانت هناك فرصة، فإنهم في أفضل وضع على طاولة المفاوضات.. الولايات المتحدة لا تضغط على أوكرانيا.. نحن لا نصر على الأمور مع أوكرانيا).. في غضون ذلك، قالت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، إن بعض العقوبات على روسيا قد تظل سارية، حتى بعد أي اتفاق سلام في نهاية المطاف مع أوكرانيا، مما يزيد من احتمال بذل جهود أمريكية طويلة الأجل للضغط على الاقتصاد الروسي.. وقالت يلين، خلال اجتماع قادة مجموعة العشرين في إندونيسيا، إن أي اتفاق سلام، في نهاية المطاف، سيتضمن مراجعة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على الاقتصاد الروسي.. (ربما نشعر، بالنظر إلى ما حدث، ربما يجب أن تظل بعض العقوبات سارية).. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.