التغيرات المناخية والصحة النفسية.. «كآبة الشتاء» فيروس يتفشى
«ماحدش بيزور حد، الناس بتتحبس في البيوت، الكآبة تسود في المكان، وأشعر باليأس والرغبة في تناول الطعام بشراهة ما يجعلني أزيد في الوزن طوال فصل الشتاء»، الأعراض السابقة يشعر بها سامر عبدالرحمن، الذي يبلغ من العمر 26 عامًا، بمجرد قرب فصل الشتاء، يطلق على هذه الحالة «الاضطراب العاطفي الموسمي»، وهو نوع من أنواع الاكتئاب الذي يحدث بسبب التغيرات الموسمية، وتوقيته غالبًا مع بداية فصل الخريف وتستمر الأعراض خلال أشهر الشتاء.
ويحكي سامر: «فقدان الشغف هو العرض الذي ينتابني في هذه الفترة وبشدة، وأحيانًا يتغلب عليّ لذا في كل بداية خريف من كل عام لا بد أن تكون لي زيارة للطبيب النفسي، لولا هذا يرافقني الإفراط في النوم، تغيرات في الشهية بل أجد ميلًا كاملًا لتناول الكربوهيدرات من الخبز والعيش وغيرهما، إلى جانب الشعور بالتعب وقلة النشاط ورفض التواصل مع الأصدقاء بالمقارنة بفترات أخرى من العام، بل كان الأمر يصل إلى إعاقة القيام بأنشطتي اليومية، لذا على الفور نصحني أبي بضرورة الذهاب للطبيب وقد كان وبصفة دورية إلى الآن».
الصحة النفسية مهددة بعواقب تغير المناخ
ووفقًا لتقرير الجمعية الأمريكية لعلم النفس APA نرى أن علم النفس يساعد في فهم ثلاث سمات مهمة للاستجابة المجتمعية، أولاها تداخل الحواجز المعرفية والعاطفية مع طريقة فهم الناس للأزمة، والثانية أن السلوك البشري يحتاج إلى التغيير من أجل التخفيف من مقدار تغير المناخ الذي يحدث، والثالثة الصحة النفسية مهددة بالعواقب المباشرة وغير المباشرة لتغير المناخ من الظواهر الجوية المتطرفة وحرائق الغابات إلى النزوح المرتبط بالمناخ، والقلق بشأن مدى تغير المناخ، وكذلك العلاقات الإنسانية، وهذا ما يقوم عليه موضوعنا.
علاقة فيروس كورونا والتغيرات المناخية
ومن جانبه قال الدكتور وحيد إمام رئيس الاتحاد النوعي للبيئة وأستاذ علوم البيئة جامعة عين شمس أن أكبر مثال على تأثيرات التغيرات المناخية على الصحة النفسية هي مدى انتشار فيروس كورونا الذي جاء بالتزامن مع التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية مما أدى إلى تفاقم تأثيره، حيث تم إجبار الأشخاص على المكوث بالمنازل لفترة طويلة مما أدى لانهيار صحتهم النفسية بالطبع.
وأضاف الدكتور وحيد أن الهشاشة المتواجدة داخل المجتمعات والأشخاص عندما يتزامن معها التغيرات المناخية بالطبع تؤثر بصورة سلبية وتزيد من الأعباء النفسية، عندما يتعرض المزارع لضياع المحصول بسبب فيضان أو سيل على سبيل المثال بالطبع الأمر مؤذي نفسيًا له لذا على المجتمعات التضافر وإعداد كوادر بشرية قادرة على تأهيل المواطنين للتعامل مع مثل هذه الآثار الخاصة بالتغيرات المناخية، وتوفير الخدمات الصحية من مستشفيات ومراكز تأمين صحي وغيرها من المؤسسات التي توفر له خدمة علاجية حتى لا تتفاقم الأعراض الخاصة به.
التغيرات المناخية وعلاقتها بالتغيرات المزاجية
علق الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي: «بالتزامن مع التغيرات المناخية تحدث تغيرات مزاجية سواء في الراحة النفسية أو العصبية أو الانفعالية الشديدة، على سبيل المثال هناك أشخاص تزداد فترة نشاطهم في فصل الربيع، وهناك من يشعرون بنوبة من نوبات الاكتئاب في بداية فصل الخريف، وقلة النشاط، ويزيد لديهم الجفاء الأسري في الشتاء».
وأضاف فرويز، أن هناك عدة أسباب مختلفة للحالة السابقة، من بينها قلة إفراز الجسم مادة السيروتونين وهي المادة المسئولة عن السعادة في المخ، فيتحكم الجهاز الهضمي بنسبة 70% في هذه المادة ووصولها للمخ، كما يتحكم الجلد أيضًا بنسبة 30%، بالتالي درجات الحرارة لها دور بالطبع في الحالة المزاجية الخاصة بالشخص، وهذا ما نجده في كل الكتب العلمية.
الأمراض النفسية يزيد نشاطها في فترة تغيير الفصول
أضاف أن الأمراض النفسية يزيد نشاطها في فترة تغيير الفصول مثل الفصام، الاكتئاب والوسواس القهري، اضطرابات سلوكية، والانفعالات تختلف باختلاف المناطق ففي بعض المناطق ذات الحرارة العالية الأشخاص بها سريعو الانفعال، ويتميز قاطنو المناطق الصحراوية بالجمود، ودائمًا ما نقول إن الشخصيات النهارية تحمل حبًا وخيرًا وسلامًا والشخصيات الصحراوية تميل لحب النساء، وتغلب عليها الطباع الحادة.
رهاب البرق والرعد في فصل الشتاء
«مع دخول فصل الشتاء بستعد لمسلسل رعب لا ينتهي مع ابني، فهو يعاني من فوبيا البرق والرعد ومظاهر فصل الشتاء، يبلغ من العمر 16 عامًا ولا يزال يخاف بمجرد سماع تلك الأصوات، لدرجة أنه يجد أسفل السرير مخبأ آمنًا له على الفور» تقول سناء علي، 40 عامًا.
تضيف سناء: «شعرت بالقلق حينما هاجرت مع زوجي إلى إحدى الدول الأوروبية من عدم التكيف، خاصة مع التغيرات المناخية التي تحدث في هذا البلد، ففي السنوات الأولى من وجودي في هذا البلد بالطبع شعرت بالارتباك حتى تعودت، ولكن أصابت ابني حالة من الرهاب الخاصة بالبرق والرعد، بمجرد أن يسمع الصوت تتسارع ضربات قلبه ويشعر بضيق في التنفس ورجفة في الجسم وغيرها من الأعراض التي أصابتني شخصيًا بالقلق المتواصل عليه».
القلق والعزوف عن الزواج
«أشعر بالقلق على مستقبلي كشاب، فكلما أستمع لأخبار خاصة بالفيضانات والكوارث الطبيعية، أشعر وكأن العالم سينتهي، وأرى أن ارتفاع درجات الحرارة سبب رئيسي في زيادة الأسعار نتيجة لعدم صلاحية بعض المنتجات بصورة سريعة، كما أن ارتفاع درجات الحرارة له ذكرى سيئة لدىّ، حيث أصبت من قبل بسبب طبيعة عملي بضربة شمس ومكثت في المنزل 15 يومًا للعلاج»، يقول ياسر فرحات، 35 عامًا.
واستكمل حديثه: «الأمر جعلني أفكر في عدم الزواج، فلماذا أُعرض نفسي لمشقة وتعب شديدين بمجرد تلبية احتياجات الأسرة، فالأمر حاليًا أصبح يحتاج لتفكير، فتأثيرات المناخ أصبحت تتدخل في حياة كل الشباب وتؤثر على الأمور الاقتصادية الخاصة بهم، فلا أقوى أن أشعر بالخذلان لعدم تلبية احتياجات أسرتي فأشعر بالقلق من المستقبل».
60 % من الشباب يشعرون بالقلق من التغير المناخي
وفى استطلاع رأي حديث فيما يتعلق بأمور تغيرات المناخ، شارك به حوالي 10 آلاف شاب تتراوح أعمارهم بين (16 و25) عامًا، رأى العديد ممن شاركوا في الاستطلاع أن الحكومات تفشل في الاستجابة لمشكلة تغير المناخ بشكل مناسب، وأن الإنسانية محكوم عليها بالفناء، وأنه لا مستقبل لهم.
كما أن 60% من الشباب يشعرون بالقلق من التغير المناخي، وأن 45% من المشاركين في الاستطلاع تؤثر التغيرات المناخية على حياتهم اليومية، وثلثاهم يشعرون بالخوف والقلق والحزن وفقدان الأمل، كما أن الشباب يتأثرون بشكل خاص بالمخاوف المناخية لأنها تؤثر عليهم جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا.
حلول لمواجهة التقلبات المزاجية
من جهته، قال الدكتور محمد مهدي، أستاذ الطب النفسي: «فيما يخص الفصام فقد لاحظ الأطباء أن المصابين به مولودون في فصل الشتاء، تم تفسير ذلك نتيجة لفيروسات معينة تنشط في المرأة الحامل خلال هذا الفصل في العام».
واقترح مهدى بعض الحلول لمواجهة هذه التقلبات المزاجية الناتجة من تغير الفصول بالتعرض لأشعة الشمس، فالتجربة الأوروبية خير شاهد لهذا، حيث إنهم يعتمدون على العلاج الضوئي للتخفيف من هذه الاضطرابات.
وقال مهدي، إن الشاعر صلاح جاهين كتب واصفًا دخول فصل الشتاء، ومن ضمن ما كتبه في هذه الحالة «دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت، وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت، وحاجات كتير بتموت في ليل الشتا لكن حاجات أكتر بترفض تمـوت».
وقالت الدكتورة راجية الجرزاوي، باحثة في مجال البيئة: «بالطبع التغيرات المناخية تؤثر على الصحة البدنية ومنها للصحة النفسية فهما لا ينفصلان، بالطبع موجات الحر الشديدة والبرد الشديدة والكوارث الطبيعية والفيضانات مع فقدان الممتلكات والبيوت بل الأشخاص الذين يتعرضون للأمراض نتيجة لضربات الشمس في الصيف وغيرها من الأمراض الأخرى كالملاريا، وحمى الضنك بالإضافة إلى العواصف الرملية والخماسين، والجفاف، كل هذا يؤثر بشكل نفسي على البشر».
الفقر وتغير المناخ والتعامل الإنساني
وأضافت: «هناك فلاحون يفقدون المحصول الخاص بهم بسبب موجات الحر الشديدة، وهناك صيادون لا يصطادون بسبب العوامل الجوية في بعض المناطق، كما أن التغيرات المناخية الفترة المقبلة قد يدفع بعض الأشخاص إلى أن يكونوا أقرب للفقر مما يدفعهم للهجرة وغيرها من الخيارات، ومن المعروف أن التغيرات المناخية تنشأ منها ما تُسمى قلاقل اجتماعية، بسبب هجر العديد من الأشخاص منازلهم وفقدان الممتلكات، مما يجعلهم يفقدون السلام الاجتماعي والرقة في التعامل الإنساني والتعاطف، جميعهم معرضون للخطر بسبب مرور الشخص بما سبق».
تم نشر تقرير حديث عبر مجلة The Lancet وهي واحدة من المجلات العلمية الطبية الأكثر ثقة في العالم حول الصحة وتغير المناخ بعنوان "العد التنازلي للصحة وتغير المناخ"2022 .
أبرز ما جاء في التقرير الآثار السلبية لموجات الحرارة الشديدة على الصحة الجسدية والعقليه، بما في ذلك تلف الكلى وزيادة خطر الإصابة بضربة الشمس، ومشاكل القلب ويمكن أن تؤدي إلى مشاكل أثناء الحمل.
أما التأثيرات على الصحة العقلية تشمل وجود مشاكل في النوم بسبب الحد من احتمالات الخروج والالتقاء بأشخاص آخرين، مما يؤدي إلى زيادة الشعور بالوحدة وتفاقم الاكتئاب، كما يمكن أن يؤدي الجفاف إلى انخفاض حاد في إنتاج الغذاء، مما قد يؤدي إلى صعوبات اقتصادية للمزارعين ، وبالتالي تدهور صحتهم العقلية، بالإضافة إلى ذلك، فقد ثبت أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد من العنف والصراع وحتى الانتحار .
ووفقا للتقرير زادت احتمالية اندلاع حرائق الغابات بشكل كبير في 61 % من البلدان من 2001-2004 إلى 2018-2021، ويؤدي ذلك لفقدان الممتلكات، أو حتى أحبائهم ومنها لصدمة شديدة وزيادة احتمال الإصابة باضطرابات مثل اضطراب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب.
كما يسلط التقرير الضوء على التأثيرات الشائعة المتزايدة لأزمة المناخ من حرائق الغابات إلى الفيضانات والجفاف، فإن القلق من تغير المناخ والقلق البيئي أصبح أكثر شيوعًا، بالنسبة للشباب على وجه الخصوص، فإن الاعتقاد بأن الأحداث المناخية الشديدة، مثل حرائق الغابات ستحدث في المستقبل يمكن أن تكون مصدرًا شديدًا للخوف،كما يحتاج علماء النفس إلى البحث عن هذه الأنواع الجديدة من مشاكل القلق وتطوير خيارات العلاج
إدراج الصحة النفسية ضمن خطط العمل
على الرغم من الأدلة العلمية الدامغة على الآثار السلبية على الصحة العقلية لأزمة المناخ، فإن القليل من خطط التكيف الوطنية لمواجهة أزمة المناخ تتضمن حلولًا محددة لقضايا الصحة العقلية، نسبة 28 % فقط من البلدان تُدرج الصحة النفسية في خطط عملها، من الواضح أنه لا يزال يتعين القيام بالمزيد لمكافحة أزمة الصحة العقلية الناجمة عن أزمة المناخ.
«الصحة العالمية»: الإبلاغ عن حالات الاكتئاب بسبب الطقس
وفقًا لتقرير صادر من منظمة الصحة العالمية (Who) تم الإبلاغ بالفعل عن حالات اكتئاب وتوتر وقلق بعد أحداث الطقس الشديدة، ودعت إلى تسريع الاستجابة من الحكومات في البلدان لمثل هذه الحالات وعلاجه الآثار النفسية الناتجة عن التغيرات المناخية.
وقالت الدكتورة سوسن العوضي، إخصائي علوم البيئة وتغير المناخ، إن النزاع المسلح وارتفاع درجات الحرارة بشكل عام يتسبب في عدم القدرة على السيطرة على الانفعالات الخاصة بالشخص، ففي بعض الأماكن ذات درجة الحرارة العالية تجدهم غير متحكمين في انفعالاتهم، بل يسود التوتر في العلاقات بين البشر.
وأضافت العوضي أن جزءًا خاصًا بالنزاعات والحروب قائم على النوع الاجتماعي، وهذا ما ستتم مناقشته في مؤتمر تغير المناخ 2022 المقبل، فالمرأة يؤثر عليها ارتفاع درجات الحرارة بشكل أكبر من الرجل، بل يؤثر على الصحة الإنجابية الخاصة بها والطعام والشراب، حيث إنها في الكثير من البلاد هي المصدر الرئيسي للرزق وهي من تعمل بالفلاحة في ظل الأجواء الحارة، بالطبع عندما يتعرض المحصول للتلف يمثل هذا عليها عبئًا نفسيًا كبيرًا لا محال.
وتابعت: «من الحلول المقترحة لا بد أن نلتزم بالانبعاثات المنصوص عليها في القوانين حتى نتحكم في التغيرات المناخية، كما علينا توفير السلامة والصحة المهنية للعمال ونوفر لهم بديلًا في حالة خطورة الأعمال الخاصة بهم، ومتابعة حالتهم النفسية والجسدية، بالإضافة لتضافر وسائل الإعلام في التخفيف من تسليط الضوء على كآبة الكوكب الذي نعيش فيه وتفاقم المشاعر البيئية فلابد من طرح حلول موازية للمشكلة للتخفيف من الآثار السلبية الناتجة عن هذا الأمر.