«سلة ورد» الثقافتان المصرية والإيطالية تتعانقان على المسرح
لطالما شكلت العروض المشتركة إحدى نوافذ المعرفة والخبرة لفنانينا المسرحيين، حيث المسرح لغة عالمية يتحدثها الجميع، ولا شك أن الانفتاح على المسرح العالمى كان لبنة الأساس لنشأة المسرح المصرى، ليس فقط من خلال نشأة أول مسرح فرنسى فى مصر ١٨٦٩ ونقل خبرات أعضائه للفنانين المصريين فيما بعد، ولكن أيضًا من خلال الترجمات والاقتباسات التى قام بها فنانو المسرح المصرى الأوائل مثل جورج أبيض وعزيز عيد ونجيب الريحانى وأدت إلى وضع اللبنة الأولى للمسرح المصرى.. فى الملف القادم ننشر مقال الناقدة رشا عبدالمنعم عن عرض مصرى إيطالى مشترك هو «سلة ورد»، كما ننشر مقالًا للناقدة صفاء البيلى حول تاريخ الترجمة فى المسرح المصرى وأثرها على تطوره.
للجسد صوت.. صوت الجسد عالٍ، ربما هو أكثر ارتفاعًا من أصواتنا المسموعة.. للجسد لغة.. لغة الجسد أكثر عالمية، وأكثر قابلية للفهم وأكثر اتساقًا مع أرواحنا، أكثر صدقًا وتلقائية، فكثير ما يكذب الناس فى أقوالهم، إلا أن الأجساد لا تستطيع أن تكذب، لا تستطيع أن تخفى حقائقها، أجسادنا قوية ومعبرة، هى الأكثر تعبيرًا عن مكنوناتنا، عن مخاوفنا، عن تاريخنا، عن أفكارنا وعقائدنا، عن أخلاقنا وسلوكياتنا، انطلاقًا من كل هذا فإن المسرح القائم على التعبير الجسدى هو مسرح إنسانى مفتوح للقراءة.
تستطيع أنت وأنا أن نقرأه، هو المسرح الأكثر واقعية وتجريدًا فى ذات الوقت، وعلى عكس ما يعتقد الكثير من الجمهور الذى لم يعتد هذا النوع من المسرح، فإن لغة الجسد هى اللغة المشتركة الوحيدة بين كل البشر، أحيانًا قد لا يصلك بعض المعانى ربما لأن بعض صناع هذا النوع من المسرح يحاكى أنماطًا من الحركة المنقولة من بعض العروض الغربية، على نحو لا يعبر عن أرواحه وأجساده، لذلك لا يصلك بالضرورة، لكن مسرح التعبير الجسدى الذى يذهب حيث الحقيقة، حيث الجمال والقبح، يكون بمثابة هتاف للصامتين «وهو الاسم الذى أطلقة المؤرخ الكبير الراحل سيد عويس على التعبيرات التى يكتبها سائقو عربات النقل على خلفية سياراتهم».. وقد سعدت كثيرًا بحضور عرض «سلة ورد» تصميم وإخراج حازم حيدر، الذى قدمته فرقة «نوت» للرقص بالمركز الثقافى الإيطالى يومى ١٢ و١٣ أكتوبر، وهو عرض مستوحى من لوحات الرسامين الإيطاليين فى القرن العشرين، وقد قدم فى إطار النسخة الثامنة عشرة لرابطة متاحف الفن الإيطالى المعاصر احتفاء بالفن المعاصر، كيف استطاع هذا العرض عبر تشكيل واستخدام أجساد الفنانين أن يؤكد أن الفن لا يموت، ولكن أى فن، الفن الحقيقى القادر على تعريتنا ووضعنا أمام مرآة حقيقية تكشف القبح والجمال، تنفذ إلى أرواحنا مباشرة.
استعرض العرض عبر عدد من «البانوهات» التى يشخص المؤدون، بأجسادهم، لوحات عالمية مثل: عجوز لبازولينى، وشخصيات نسائية وسلة ورد لبرونو كاروسو، وكريستينا لأميديو موديليانى، وفانتازيا ورأس الدمية لماريو مافاى، والمضارع لفرانسيسكو كليمنت، دامجًا لغتى الجسد والألوان- الرقص والرسم كلغتين عالميتين يسهل فك شفراتهما على كل البشر.
كان أميز ما فى العرض هو كيف استطاع حازم حيدر دمج واقعنا الإنسانى والمحلى فى العرض، فيتناول العلاقات المبنية على السيطرة والسلطة، والصراعات المتجددة المؤسسة على احتلال مكانك فى المشهد وإزاحة الآخر بعيدًا، مستلهمًا اللحظات الثورية التى استطاع فيها الفن إفراز وعى مغاير بالحقوق وتحفيزنا للمطالبة بها، والتى كانت على رأسها ثورة ٢٥ يناير، التى ألهمت العالم كله من ميدان التحرير بمصر، كان لافتًا أيضًا استلهام تراثنا الغنائى الرسمى والشعبى فى الموسيقى، «أم كلثوم والأغنية الشعبية»، مبرزًا جمالنا وخصوصيتنا الثقافية المستمرة والباقية التى تظل مصدر قوتنا وتميزنا عبر الزمن، رغم كل ما يصدر عنا من سلوكيات مقيتة بها ما بها من العشوائية والذكورية والإقصاء.
فى نهاية العرض، كما فى بدايته، تعلق اللوحات التى يجسدها الممثلون ويسمح للجمهور بجولة بين اللوحات المصورة والبشرية، ويسمح له بالتقاط الصور معهم دون أن يلمس أيًا منهم.. تميز أداء الفنانين المشاركين خاصة أداء لبنى المنسى فى مشهد تمثيل استوحت فيه أداء الروبوت وظلت تكرر جملة: «أنا جيت فى المكان الغلط» بشكل متكرر وتقطيعات مختلفة مع الحفاظ على إيقاع الشخصية أثناء التكرار وهو أمر صعب بالفعل، كما تميز عنصرا الأزياء والمكياج فى محاولتهما مقاربة اللوحات المعروضة.
فى النهاية، فإن عرض «سلة ورد» هو عرض استطاع أن يدمج الثقافتين المصرية والإيطالية فى عمل فنى يثبت أن الفن والثقافة أبقى من البشر وهما الميراث الأهم الذى يخلفه جيل لجيل، وهو أيضًا فرصة لتوجيه الدعوة للجمهور للبحث عن عروض الرقص والمسرح الجسدى والذهاب إليها والاستمتاع بها، والتخلص من الصورة النمطية الساخرة وغير الحقيقية عن أنه مسرح غربى وغريب عنا وعن ثقافتنا، وكأن أجسادنا ليست جزءًا منا ولا من ثقافتنا، فلا يكون هذا المسرح تحديدًا غريبًا إلا بقدر اغترابنا نحن عن أجسادنا.