ما وراء ظاهرة ضرب الطلاب والزوجات
فى وقت واحد طفت على السطح حادثتان فرديتان لهما دلالة واضحة على مرض من أخطر أمراض المجتمع وهو اعتداء من يملك القوة بالضرب على الطرف الأضعف، سواء كان الطرف الأقوى مدرسًا يمارس الضرب على تلاميذه الصغار كما فى حادثة تلميذة الدقهلية الشهيدة، أو زوجًا يستقوى على زوجته بالضرب كما فى الحادثة التى عرفت إعلاميًا باسم «عروس الإسماعيلية».. وفى كلتا الحادثتين أظن أنه آن الأوان أن ننظر نظرة أعمق لأمراضنا الاجتماعية وأسبابها المختلفة بدلًا من الاكتفاء بإدانة الجانى ووصمه بأنه مريض أو قاسٍ يستحق العقاب رغم أنه كذلك بالفعل.
وفى ظاهرة مثل ظاهرة الضرب فى المدارس فإن هذه الظاهرة الإجرامية لها عدة جذور وأسباب أخطرها السبب الاقتصادى، حيث يلجأ المدرسون لإجبار التلاميذ للحصول على الدروس الخصوصية وعقاب من لا يدفع ثمن الدرس الخصوصى «الإتاوة فى حقيقة الأمر» بالضرب.. بحيث يدرك جميع التلاميذ أن الحصول على ثمن الدرس الخصوصى من الأهل وتسليمه للمدرس هو الطريق الآمن الوحيد لتجنب الضرب والإهانة والتنمر من المدرس، فضلًا عن الحصول على درجات «أعمال السنة» التى يمنح القانون المدرس سلطة تقديرها لضمان التزام التلاميذ بالحضور والأداء الجيد خلال العام.. لكن المدرسين من ضعاف النفوس أصبحوا يستخدمونها كأداة لابتزاز الطلاب وإجبارهم على الحصول على الدروس الخصوصية.. وقد تعرضت لهذا الابتزاز شخصيًا فى إحدى مدارس حى شبرا فى منتصف الثمانينيات وحكيت ما حدث لوالدى الذى تعلم فى مدارس مصر أيام كان طه حسين هو وزير المعارف فيها، فأخبرنى أن علىّ أن أرفض الابتزاز ما دمت لا أحتاج إلى درس خصوصى وأنه سيأتى لمقابلة ناظر المدرسة، لكن زيارته تأخرت أسبوعًا لمشاغل لديه عرفت خلاله كيف يكون ابتزاز المدرس الفاسد للتلميذ الذى يقع تحت ولايته وكيف يكون شكل الضغط النفسى الذى يمكن أن يمارسه عليه، وما أقصد أن أقوله إن هذه ممارسات موجودة منذ تدهور التعليم فى مصر ولها سبب اقتصادى واضح وهو ابتزاز التلاميذ للحصول على إتاوات منهم وهو أمر لا يصح أن يستمر فى الجمهورية الجديدة التى تعهد رئيسها بقطع أى يد تمتد على المصريين بالإيذاء.. وإلى جانب العامل الاقتصادى هناك العامل الثقافى الذى يستمد جذوره من فهم قديم للحديث الشريف الذى يجيز ضرب الأبناء لتعويدهم على الصلاة «عودوهم عليها لسبع واضربوهم عليها لعشر».. إننى لن أخوض فى جدل يتعلق بعلم الحديث ومدى صحة رواية بعض الأحاديث ودقة سندها وهل هذا حديث متواتر أم من أحاديث الآحاد.. لكننى أقول إن تربية الأبناء هى أمر من أمور الدنيا يخضع لنظريات التربية وعلم النفس والاجتماع، وقد حسم الرسول «ص» الأمر حين قال أنتم أعلم بشئون دنياكم.. والفكرة أن بعض الأهل يتنازل عن سلطته المزعومة فى ضرب الأبناء للمدرس عن جهل بقواعد التربية الحديثة، حيث شاعت فى الماضى مقولة يقولها الأب لمدرس أبنائه وهى «كسر وأنا أجبر»، بمعنى أنه يمنح المدرس السلطة لكسر عظام ابنه مقابل تعليمه، على أن يقوم هو «الأب» بعلاج الكسر الذى أحدثه المدرس، وهو مثل يكشف عن خلل فى التفكير، واعتداء على حقوق الطفل، واتفاق جنائى يوجب حبس طرفيه لو تم إثباته، فضلًا عن نظرة رجعية متخلفة تنظر للطفل كعبد مملوك لوالده من حقه أن يتفق مع غيره على إلحاق الأذى به بادعاء أنه يعلمه ويحسن تربيته بهذه الطريقة المجرمة.. وإلى جانب الابتزاز والفهم الخاطئ لدور الضرب فى العربية هناك المرض النفسى لبعض المدرسين والذين يملكون شخصية «سيكوباتية» تستمتع بإلحاق الأذى بالآخرين أو شخصية «سادية» تستمتع بتعذيب الآخر وتصل إلى قمة السعادة حين تفعل ذلك، وهؤلاء يجب فصلهم من الخدمة على الفور.. والحقيقة أننى لا أرى أن وزارة التربية والتعليم طرف فى ظاهرة الضرب فى المدارس، بمعنى أن الضرب جريمة جنائية يجب تقديم بلاغ للنيابة العامة بشأنها مباشرة، ليس فقط ضد المدرس ولكن ضد ناظر المدرسة ومدير الإدارة الذى سمح بوجود مثل هذا الشخص المنحرف سلوكيًا ونفسيًا وهنا يأتى دور الإعلام فى علاج مثل هذه القضايا، وتوعية أولياء الأمور من البسطاء بعدم الخوف وإبلاغ النائب العام مباشرة عن المدرس الذى يمارس الضرب، ثم يأتى دور مجلس النواب بتغليظ عقوبة الضرب من الشخص ذى الولاية على من يقع تحت ولايته مثل ضرب المدرس لتلميذه والأب لابنه أو ابنته والزوج لزوجته وهى أيضًا جريمة فظيعة يستخدمها بعض السيكوباتيين والساديين لتعذيب زوجاتهم تحت ستار الدين، وأذكر أن بائع الفاكهة الذى ضرب زوجته فى الإسماعيلية خرج فى فيديو منذ ستة أشهر تعرض فيه لأمور دينية لا يؤهله تعليمه البسيط للحديث فيها وقال إن القرآن يبيح له ضرب زوجته!! وكان يدافع عن نفسه إثر اهتمام الرأى العام بحادثة ضربه لعروسه بسبب تأخرها فى الكوافير لمدة ربع ساعة فى ليلة زفافها!! وهو عبث آن أوان وقفه من خلال تغليظ العقوبة على من يضرب زوجته أضعافًا مضاعفة لمن يضرب شخصًا غريبًا عنه، لأن من يضرب أقرب الناس إليه هو بالتأكيد مجرم يحتاج إلى الردع أضعاف أضعاف ما يحتاجه من يضرب شخصًا لا يعرفه أو عدوًا له.. إن كل هذه الأوضاع المتردية تؤثر فى أوجه حياتنا كلها، وأهمها الاقتصاد، والإنتاج، فالتلميذ الذى يتم ضربه وتخويفه وابتزازه لن يكبر ليصبح مبدعًا أو عالمًا أو عاملًا جيدًا.. والمرأة التى يتم ضربها وإهانتها وقهرها لن تربى أبناء أسوياء محبين للحياة.. وسيعيد الجميع استكمال دائرة القهر التى مروا بها مع أبنائهم وزوجاتهم.. إلخ إلخ.. وهذا كله عفن اجتماعى من ميراث الماضى آن الأوان أن تواجهه القيادة السياسية بيد من حديد، وبخطة علاج اقتصادية وتثقيفية ودينية وقانونية تقضى على هذه الظواهر المريضة من جذورها وتضع المجتمع المصرى فى المكان اللائق به كمجتمع حضارى يستند إلى حضارة قديمة وعريقة.. والله من وراء القصد.