واحد من ستة أنبياء..السادات بعيون كيسنجر
فى كتابه التاسع عشر، «القيادة.. ست دراسات فى الاستراتيجية العالمية»، الصادر فى يونيو الماضى، تناول هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى الأسبق والأشهر، ستة قادة ملهمين، أو أنبياء، Prophets، تجاوزوا ظروفًا ورثوها، وعالمًا تزعزعت ثوابته، وحملوا مجتمعاتهم إلى أقصى حدود الممكن، وأسهموا فى بناء عالم جديد: كونراد أديناور، مستشار ألمانيا الغربية، الرئيس الفرنسى شارل ديجول، الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، الرئيس أنور السادات، ولى كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة، ومارجريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية. وكان نصيب السادات ٧٣ صفحة من صفحات الكتاب الـ٥٢٨، ذات القطع الكبير.
جمع بين هؤلاء القادة، كما يرى كيسنجر، أن الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين، أى بين عامى ١٩١٤ و١٩٤٥، كانت سنوات تكوينهم، وعانوا فيها بطريقة، أو بأخرى، سواء من أهوال الحرب أو من مظالم الاحتلال، وخرجوا منها، كلٌ باستنتاجه، الأسباب التى قادت العالم إلى الخراب، وبإدراك كبير لقيمة القيادة الجريئة الطامحة. كما اشتركوا فى الرؤية الملهمة، التى تحقق تحولات تاريخية وتحدث التغيير المطلوب فى أوقات الأزمات، الناتجة عن حروب أو تغيرات تكنولوجية سريعة أو خلل اقتصادى أو اضطراب أيديولوجى.
بعد توضيحه للفارق بين رجل الدولة والقائد الملهم، وتأكيده أن الجمع بين السمات الشخصية والسياقات القائمة هو الذى يخلق التاريخ وينحت من خامات الحاضر تمثالًا للمستقبل، استعرض كيسنجر مسيرة السادات السياسية، منذ ما قبل ثورة ٢٣ يوليو، وتناول استراتيجية السادات، التى وصفها بـ«استراتيجية التعالى»، Strategy of Transcendence، وانتهى إلى أنه استطاع، بمزيج بارع من الخطط العسكرية والدبلوماسية، أن يسترد كثيرًا من أرض مصر المحتلة، وكثيرًا من ثقتها بنفسها بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، وأن يضمن سلامًا مع إسرائيل بفلسفة متعالية على الوضع الراهن، وقتها، ولم يسمح لأى عقبات أن تعرقل مسيرته.
كيسنجر، مستشار نيكسون للأمن القومى ووزير خارجيته، وخارجية جيرالد فورد، لم يتوقف عن لعب أدوار مهمة، فى السياسة الخارجية الأمريكية، وكان بالفعل «سيد اللعبة»، كما وصفه مارتن أنديك، السفير الأمريكى لدى إسرائيل خلال عهد الرئيس بيل كلينتون، فى عنوان كتاب صدر منذ سنة، تناول فيه دوره و«فن الدبلوماسية فى الشرق الأوسط». وهو، بوصف السادات كما نقل الأستاذ هيكل، الساحر، الذى أنهى الحرب فى فيتنام وفتح باب الصين، والذى يتفاوض فى الاتحاد السوفيتى مع الزعيم ليونيد بريجينيف ولا أحد غيره.
على مدى السنوات الأربع، التى تلت نصر أكتوبر العظيم، قام كيسنجر، برحلات مكوكية يصعب عدها بين القاهرة وتل أبيب ودمشق، وعواصم عربية أخرى، لإرساء أسس السلام فى الشرق الأوسط، تحت رعاية أمريكية. والحقيقة، هى أن الدبلوماسى الأمريكى المخضرم، أدرك، منذ أن كان باحثًا بجامعة هارفارد، ونال درجة الدكتوراه عن رسالة عنوانها «السلام، والشرعية، والتوازن»، أن الدبلوماسية عملية موازنة، أو محاولة لإحداث التوازن بين قوى يطاردها شبح كارثة نووية. وعليه، رأى فى كتابه الأحدث، أن السلام مع إسرائيل هو أعظم إنجازات السادات، وأبدى استياءه من أن قليلين فقط، هم الذين يتذكرون ذلك الإنجاز، بينما يتجاهل الجميع تقريبًا هدفه الأخلاقى العميق، الذى كان أساس اتفاق أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والسلام الإسرائيلى الأردنى، والتطبيع الدبلوماسى بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
.. ولا يبقى غير قراءة الفاتحة على روح صاحب قرار حرب أكتوبر، الذى قرر إرهابيون، بنذالة مضاعفة، أن يجعلوا ذكرى النصر، هى نفسها ذكرى استشهاده. ثم مرت على البلاد أيام سوداء تولت أمرها فيها جماعة ضالة، أرسلت مندوبها فى قصر الرئاسة، مساء ٦ أكتوبر ٢٠١٢، ليجوب استاد القاهرة، بسيارة مكشوفة، قبل أن يترجل ويقترب من المدرجات موجهًا التحية إلى أصحاب وجوه كالحة، من بينهم قتلة السادات، الذين لم يجتمعوا، قطعًا، للاحتفال بذكرى النصر، بل ليرقصوا على جثمان الشهيد فى ذكرى قتلهم له.