مهرجان القاهرة للدراما.. 60 عامًا من الفن في ليلة واحدة
مسرح مركز المنارة أمس كان ممتلئًا بنجوم تساوى وزنها تاريخ وحضارة وثقافة ولا يمكن شراؤها بالمليارات
تكريم فنان كبير عائد من الاعتزال مثل محسن محيى الدين وتقديم الفنانة صابرين الحفل بعد العودة من الاعتزال.. رسالة قوية لطيور الظلام
معظم المكرمين من النجمات وليس النجوم لأن طيور الظلام استهدفوا المرأة المصرية منذ نصف قرن وهذه رسالة لهم بعلم الوصول
الشكر واجب لكل من ساهم فى تنظيم المهرجان ولمن فكر فى إحيائه وأدعو لإعادة حفل الافتتاح وإذاعة أجزاء منه على قنوات المتحدة
تقرير لجنة التحكيم كان مكتوبًا بحرفية ورئيسة اللجنة قاتلت لحماية وجدان المصريين منذ سنوات
عواطف كثيرة متضاربة انتابتنى وأنا أشاهد حفل افتتاح «مهرجان القاهرة للدراما» أمس.. أولى هذه العواطف والتى أظن أن الملايين شاركونى فيها هو الشعور بـ«النوستالجيا» أو «الحنين» لتلك السنوات التى تعنى على المستوى الشخصى الطفولة. ودفء الأسرة، وغلبة القيم على المادة، واجتماع المصريين على أشياء مشتركة تجمعهم جميعًا عبر المسلسل والمدرسة، وكلاهما يكمل بعضه البعض، الحنين لزمن لم يكن هدف الدراما الربح بقدر ما كان بث المعانى الكبيرة وخلق حالة من التوحد حول هدف واحد، زمن كانت الدولة فيه ما زالت واعية بدورها فى تجميع الناس حول معنى الوطن قبل أن تتنازل عن دورها للمغامرين وأصحاب توكيلات الثقافة الأجنبية والسماسرة والمتمولين بأموال مبادرات التغيير والفوضى الخلاقة، مع الحنين كان هناك الفخر بهذا البلد الذى يسترد نفسه، ويحفظ دروسه، وكلما تعثر يخرج من بين أبنائه من يحمل كتابه ويحفظ تاريخه ويسد الثغرات فى جداره، وهكذا عاد مهرجان الدراما بعد خمس سنوات من إصلاح حال الدراما، وإقامة جدارها الذى كان قد مال حتى أوشك على السقوط، واستعادة معنى صناعة الوجدان العام، وتوحيد الناس حول قضايا الوطن، حتى لا نصبح مجموعة سكان يقيمون فى مساحة متجاورة.. ونصبح بعدها ميليشيات متنازعة كما كان يخطط لنا البعض، وإلى جانب الحنين للماضى، والفخر بالمعنى وراء الحدث، كان هناك الإعجاب بالشكل الفنى، والجهد المبذول، ودقة التنظيم، وذلك الحضور الكبير جدًا لفنانى مصر العظام من مختلف الأجيال، ليتم تكريمهم فى بلدهم، وفق سياق له معنى يقول لهم «أنتم قيمة كبيرة» أنتم «تاريخ» لا يشتريكم أحد.. ولا يتسلى بوجودكم أحد.. أنتم كبار جدًا لأنكم مصريون، ولأنكم فى عهد دولة تعرف قيمتها جيدًا.
منصة تسوى مليارات
أول انطباع جاءنى وأنا أتابع حفل مهرجان القاهرة للدراما بالأمس أن منصة المهرجان نفسها لا تقدر بمال، فالتاريخ لا يشترى بالمال، ومع ذلك فإننا لتقريب المعنى يمكن أن نقول إن المنصة تسوى مليارات الدولارات أو أكثر بكثير. هل ليحيى الفخرانى رئيس المهرجان ثمن؟ هل لخمسين عامًا من الثقافة والمسرح والدراما والسينما ثمن؟ هل لهذا الرقى والتوحد مع الفن ثمن؟ ما هو سعر السعادة التى منحها لنا الفخرانى فى «ليالى الحلمية»؟ كم سعر ما منحه لنا فى «زيزينيا»؟ أو فى «صيام صيام» أو فى «بابا عبده»؟ أو فى «حمادة عزو»؟ أو فيما يقرب من أربعين مسلسلًا قدمها على مدار أعوام طويلة وتحول معها إلى طقس من طقوس رمضان عند المصريين، وتفصيلة من تفصيلات حياتهم فى هذا الشهر الكريم.. هذا إذا سكتنا عن علامات فى السينما المصرية مثل «خرج ولم يعد» و«عودة مواطن» و«للحب قصة أخيرة» و«الكيف» و«إعدام ميت» وغيرها الكثير والكثير، وإذا تغاضينا عن مسرحيات مثل «الملك لير» و«ألف ليلة وليلة» وغيرها الكثير والكثير... كم يساوى اسم «صلاح السعدنى» الذى تم تكريمه كأحد رموز الدراما المصرية.. اسم لا يقدر بمال.. منذ بدايته على مسرح كلية الزراعة فى الستينيات مع عادل إمام وتألقه فى مسلسل «القاهرة والناس» ثم «بابا عبده» حتى عرفناه كأطفال فى بداية الثمانينيات فى دوره الخالد «العمدة سليمان غانم» ثم رائعته «أرابيسك» ثم أدواره المختلفة التى جعلته واحدًا من أفراد الأسرة المصرية رغم تقدير الكثيرين بأنه كان يمكن أن يحقق ما هو أكثر بكثير.. لكنه التوفيق والقدر والحظ وعوامل كثيرة جدًا.. جعلته مع سوء حظه هذا واحدًا من أعظم الممثلين فى تاريخ مصر وأكثرهم ثقافة.. نفس العين الواعية التى اختارت صلاح السعدنى لنيل وسام المهرجان اختارت «محسن محيى الدين» الفنان الكبير والعائد من «الاعتزال» إلى أحضان الفن.. وأحضان البلد.. معنى كبير جدًا لا يدركه إلا ذوو الألباب، والذين يعرفون ماذا يعنى الوطن وماذا يعنى الفن المصرى.. محسن الشاب الموهوب جدًا.. نجم أفلام يوسف شاهين الواعد.. بطل «إسكندرية ليه»؟ و«الوداع يا بونابرت».. الذى اختطفه تيار غامض كان يستغل حساسية بعض الفنانين وصعوبة الصراعات فى الوسط الفنى ليمد يده ويختطف بعض أنبل فنانينا ويقنعهم بأن الفن حرام، ويبذل لهم الغالى والنفيس كى يقنعهم بمخططه وسط خيبة وتواطؤ وانسحاب من الدولة وقتها، والتى كان بعض مسئوليها يحسب كل شىء بالنقود، ويبيع كل شىء بالنقود، وكأنه تاجر «منيفاتورة» لا رئيس ولا مسئول ولا قائد.. عندما يقف محسن محيى الدين لتكريمه فهذه رسالة حضارية وسياسية قبل أن تكون فنية.. وحركة لا تستطيع أن تقول لمن فكر فيها سوى «أحسنت» أو «رمية موفقة».
وما ينطبق على محسن محيى الدين ينطبق بالحرف على الفنانة «صابرين» فتاة أحلام جيل الثمانينيات، والممثلة الكبيرة التى أدت دور أم كلثوم بعظمة وتمكن، فتم استهدافها بعد المسلسل مباشرة، وفق خطة محكمة، وتدخلات يبدو بعضها تلقائيًا لتعلن عن اعتزالها، ونخسر فنانة شاملة، ووجهًا يحبه المصريون، وتدخل فى دوامة طويلة من الاعتزال وتوابعه.. ثم تعود أمس الأول بكامل قوتها لتقدم فقرة المكرمين فى الافتتاح بتألق كبير وحضور لافت وحرص على لفت الانتباه لعودتها.. فى لفتة تعنى الكثير والكثير.
تكريم نجوم الظل
حتى تكريم نجوم الظل فى المهرجان يشبه مصر الحالية، التى تحنو على البسطاء ويقابل رئيسها سيدة مكافحة تعمل فى تحميل البضائع على عربة يد، فيهديها سيارة، ويقابلها بنفسه تكريمًا لكفاحها، وغيرها عشرات النماذج المشابهة التى يحرص الرئيس على تكريمها كرسالة غير مباشرة لغيره من المسئولين أن مصر بلد الفقير، كما هى بلد الغنى، وأن النخبة الأفضل، تعليميًا واقتصاديًا، لا تملك البلد ولكنها تديره لحساب المصريين جميعًا.. هذا المعنى شاهدته يتكرر فى تكريم فنانى الأدوار الثانوية من العظماء والذين ارتبطنا بهم عبر سنوات طويلة دون أن نميز أسماء بعضهم رغم أنهم كانوا سببًا لسعادتنا.. من أول الجميل محمد فريد «طقطق» فى ليالى الحلمية.. وأمل إبراهيم «أم روايح» فى الكيت كات، وقيس سعيد «الطالب الفاشل» فى «على باب الوزير» إلى باقى الفنانين الأصلاء الذين كان تكريمهم لفتة رائعة وفى الاتجاه الذى تسير فيه مصر كلها، وما ينطبق على هؤلاء المبدعين ينطبق أيضًا على فنانى الإضاءة من «أسطوات» ماسبيرو القدامى والمخرجين المنفذين وجميع نجوم الظل والجنود المجهولين فى الدراما المصرية.
لجنة التحكيم
لجنة محترمة برئاسة مخرجة مقاتلة مثل إنعام محمد على، تعرف قيمة الدراما فى صياغة الوجدان العام، قدمت أعمالًا مثل «أم كلثوم» و«قاسم أمين» و«مصطفى مشرفة» و«الطريق إلى إيلات» وكأنها تحول الكاميرا إلى مدفع تصوبه نحو أعداء الوطن فى ميدانها وهم التطرف والجهل وإهدار قيمة الرموز الذين سعت إلى تخليدهم وتعريف الأجيال الجديدة بهم، أعجبت جدًا بتقرير اللجنة الذى قرأته وهو مكتوب بطريقة جيدة بغض النظر عن تعثرها فى بعض الكلمات فهى صانعة دراما وليست إعلامية وليس مطلوبًا منها ذلك، اللجنة احتوت على أسماء كبيرة محترمة مثل المخرج تامر محسن والناقدة الكبيرة خيرية البشلاوى والنجم أحمد السقا وأسماء أخرى لا تقل أهمية، وبشكل عام كانت اختياراتها موضوعية وذات دلالة منها، مثلًا تكريم النجم أحمد أمين عن دوره فى «جزيرة غمام» وبالنسبة لى فالجائزة كان يجب أن تذهب لخالد النبوى عن «راجعين يا هوى» لكن الفن وجهات نظر، وربما رؤى أن يتم تشجيع أحمد أمين عن دور مميز فعلًا، فى حين أن النبوى راسخ القدم بالفعل ولا يحتاج إلى تشجيع.. اختيار كاملة أبوذكرى كأفضل مخرجة اختيار فى محله وهى موهبة كبيرة أتمنى أن تختطفها الشركة المتحدة كقيمة فنية كبيرة، من جهة أخرى فإن حماس إنعام محمد على للقضايا النسائية دفعها للإشادة بمسلسل نيللى كريم فى رمضان رغم وجود مشاكل فنية واضحة فى السيناريو والحوار، ولكن لا بأس من تشجيع فنانة طرحت قضية جادة لأنها تستحق التحية.. بشكل عام كان كل شىء رائعًا ويستحق التحية.
الاختيار
لقطة تكريم مسلسلى «الاختيار» و«العائدون» من اللقطات الذكية جدًا، فالمسلسلان خارج إطار المنافسة لأن هدفهما هو حفظ الذاكرة الوطنية، ومع ذلك فقد تميزت بعض الجوانب الفنية فيهما للغاية، ولكن الأصوب كان خروجهما من المنافسة لسد الباب أمام المزايدين، وعواجيز الفرح وأعضاء اللجان الإلكترونية، وأظن أن على الشركة المتحدة إنجاز فيلم تسجيلى عن كواليس صناعة الاختيار عبر أجزائه الثلاثة، فالمسلسل كشف وقائع تاريخية لم تكن معروفة حتى ظهورها على الشاشة، وعملت فيه كوكبة من أهم النجوم، وسجل وقائع ثورة تاريخية وما سبقها وما تلاها من مواجهات، وهو بهذه المعايير يستحق تخليد قصة صناعته فى وثائقى يخرجه بيتر ميمى كوثيقة للأجيال الأصغر.. شكرًا لصناع مهرجان القاهرة للدراما ولنقيب الممثلين أشرف زكى وللعظيم يحيى الفخرانى وللشركة المتحدة للإنتاج الإعلامى ولوكالة «بى. أو. دى» ولكل قلب ينبض بحب هذا الوطن، ولكل عقل يفكر كيف تستعيد مصر قوتها وجدارتها.