دعم مسرح المحافظات
فى مهمة خاصة بالعمل سافرت إلى بورسعيد.. هى المرة الأولى التى أزور فيها محافظة بورسعيد زيارة ممتدة، كانت الفرصة سانحة لأتعرف على المدينة وعلى البشر.. للتعرف على الأحجار والبيوت الطيبة، للتعرف على دفء البحر المفتوح على البشر أخذًا وعطاء.
عاينت كل هذا الجمال لكننى عاينت أيضًا تراجعًا فى مجالات الفنون والثقافة، خاصة المسرح، إنتاج لا يليق بمحافظة بهذا الحجم.. إسهام ضعيف من مسرح الجمعيات ومسرح الجامعة ومسرح القطاع الخاص، أما مسرح قصور الثقافة فيكفى أن تعرف أن عدد ليالى العرض للفرق التابعة له، وهى ٥ فرق، ٣٤ ليلة عرض على مدار العام، مما يعنى أن فرص المواطن البورسعيدى فى الذهاب إلى المسرح محدودة جدًا، لذا عاينت غضبًا وإحساسًا بالتهميش وصراعات نشأت عن قلة الفرص ومحدودية الفضاءات الإبداعية، وتساءلت كيف لبلد يفيض بهذا الجمال فى طبيعته وبشره وأحجاره يفتقد مبدعوه إلى فرص التعبير عن هذا الجمال فى إبداعهم؟.
التقيت فنانى المسرح فى بورسعيد ورأيت أجيالًا تدفع أجيالًا بدلًا من أن تسندها أو تستند إليها، دفعنى ذلك لاستقصاء الأمر، وكما توقعت ميزانيات ضعيفة، فرصًا محدودة، مسارح ودور عرض مغلقة، أشخاصًا مهيمنين ومحتكرين للعمل فى بعض روافد إنتاج المسرح، غيابًا نوعيًا لمسارات نقل الخبرات بين الأجيال أو بين الخبراء من خارج بورسعيد وأبنائها، انعكس كل ذلك على المسرح، جودة المنتج المسرحى وتوفره، انعكس على تكافؤ الفرص والمنافسات الشريفة، انعكس على وحدة وتفاهم أصحاب المصلحة الواحدة من العاملين بقطاع المسرح.
ولأن جزءًا من عملى، الذى استدعى هذا السفر، كان فى مجال التدريب، فقد وجدت تعطشًا كبيرًا لدى أبناء محافظة بورسعيد للتطوير والعمل الثقافى وبناء القدرات.
ومن وحى أزمة شباب المسرح فى بورسعيد فكرت فى شباب فى مختلف محافظات مصر، فهم جميعًا أحوج ما يكون إلى التمكين، إلى دعم الدولة ورعايتها، العديد من الشباب فى حاجة إلى اكتشاف وتنمية مواهبه، فى حاجة إلى إطلاق طاقاته التى صارت تخطئ هدفها وتنطلق فى اتجاهات طائشة بل وخربة فى كثير من الأحيان.
إننا فى مأزق حقيقى، مأزق ثقافى بالأساس، يحتاج إلى خطط واستراتيجيات واضحة تفتح الفضاء وتتيح المساحات المغلقة للفنون والأدب والثقافة، ماذا يساوى الاستثمار فى الثقافة، الاستثمار فى البشر- ماذا يساوى دعم الشباب واكتشاف مواهبهم وإطلاق طاقاتهم فى اتجاهها الصائب؟ يساوى ألا نستيقظ كل فترة على شاب يطارد فتاة بسكين، يساوى ألا تفجعنا أخبار انتحار الشباب، يساوى ألا تبتذل فتى أو فتاة روحها فى فيديوهات «تيك توك» لتجمع أكبر قدر من اللايكات والأموال، ويساوى ألا يلجأ شبابنا إلى المخدرات لتغيبه عن واقعه، ويساوى ألا يعطى أحدهم عقله ويعتنق أفكارًا متطرفة ومخربة أو يسلم أحدهم ضميره ويرتكب الحماقات ضد وطنه ومجتمعه. إن الثقافة هى السلاح الأكثر استدامة فى مواجهة التطرف والإرهاب، وغياب الثقافة بكل المعايير هو أكثر كلفة من الإنفاق عليها، ولكننا نحتاج فعليًا إلى تضافر جهود الدولة بكل مؤسساتها والمجتمع المدنى المعنى بالثقافة ورجال الأعمال المدركين لقيمة الثقافة وأصحاب رءوس الأموال الوطنية- ولنتساءل: ماذا لو أن هناك صندوقًا مشتركًا لدعم الفنون فى كل محافظة، صندوقًا تشارك فيه كل تلك الجهات؟، إن ٢ مليون جنيه تخصص لـ١٠٠ مشروع ثقافى بواقع ٢٠ ألفًا لكل مشروع، ما بين فرقة مسرحية وموسيقية وفيلم قصير ومعرض فن تشكيلى، مشاريع صغيرة للحرف التراثية، كفيلة بأن تنعش الفعل الثقافى فى المحافظات وتحقق الرواج الاقتصادى والسياحى، كفيلة بأن تنقذ آلاف الشباب.