مسرحيون عرب.. فضل «التجريبى» علينا كبير
اختتم دورته الـ«29» منذ أيام:
طارق سعيد: احتككنا بتجارب عالمية من خلاله
محمد شرشال: الورش التعليمية فيه بمثابة جامعة مفتوحة
سامى جمعان: جعلنا ننفتح على مفاهيم عالمية جديدة لفن المسرح
حسين حبيب: كل معاهد المسرح استفادت منه فى مناهجها
انتهت منذ أيام الدورة التاسعة والعشرون لمهرجان المسرح التجريبى فى القاهرة.. تاريخ طويل سطره المبدعون المصريون والعرب عبر دورات المهرجان المختلفة التى بدأت عام ١٩٨٨ على يد المثقف الكبير د. فوزى فهمى، رئيس المهرجان.. المهرجان كان تأكيدًا لريادة مصر فى المسرح الذى بدأت أول عروضه فى القاهرة عام ١٨٦٩ على خشبة المسرح القومى فى العتبة.. وهى ريادة ليست فى حاجة للتأكيد عليها.. وتوقف المهرجان فى الفترة من ٢٠١٢- ٢٠١٦ لكنه عاد مثلما عادت كل أوجه الحياة والأمان لمصر الجديدة.. فى هذا الاستطلاع يتحدث مسرحيون عرب عمّا تعلموه من مهرجان المسرح التجريبى عبر السنوات المختلفة وعن فضله فى نقل تجارب مسرحية عالمية للمسرحيين العرب.
مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى من أعرق المهرجانات فى الوطن العربى، وكان له كبير الأثر فى المسرح المصرى والعربى. فى الثمانينيات بدأت لغة المسرح فى مصر تنحو للجمود وصار يغلب عليها الطابع التقليدى، نتيجة توقف البعثات لعقود وعدم تجديد الدماء وعدم وجود نوافذ تفتح على التطور التكنولوجى وأشكال المسرح الجديدة، وفى غمار هذا ظهر المهرجان التجريبى عام ١٩٨٨، واقترح إقامته الوزير الأسبق فاروق حسنى، ليكون نافذة مسرحية تجدد شباب المسرح فى مصر والوطن العربى، وشارك فى تأسيسه فكريًا كبار الفنانين المسرحيين والنقاد فى ذلك الوقت.
وترأس المهرجان الأستاذ الدكتور فوزى فهمى لسنوات طويلة، مقدمًا نموذجًا لم يتكرر فى رئاسة مهرجان، إذ استطاع أن يدعو أحدث وأهم العروض المسرحية، وأحدث العناوين المترجمة، وأهم السيمنارات والندوات الفكرية، ما صنع زخمًا وحراكًا فكريًا وجماليًا كبيرًا، وأثر المهرجان بشكل أكبر فى جيل التسعينيات، إذ أعاد توجيه وتشكيل ذائقته الجمالية فى مصر والوطن العربى وإفريقيا، بل وفى العديد من دول العالم التى كانت تتسابق سنويًا للمشاركة فى المهرجان.
تبدت آثار المهرجان التجريبى الجمالية والفكرية فى مظاهر عدة، فظهر تيار المسرح المستقل حين رأى الشباب لغة مسرحية جديدة وطمح فى إنتاج مسرح لا يشبه ما يقدم فى مسرح الدولة وبآليات إنتاج بديلة، وكان «التجريبى» أحد أهم مصادر الإلهام لهذا التيار، كما ظهرت أشكال مسرحية لم تكن موجودة، مثل: المسرح الجسدى والرقص الحديث والمسرح الصوتى.
كما انعكس تأثير «التجريبى» على لغة النقد، فلغة المسرح الجديدة جعلت النقاد يبحثون عن لغة جديدة.
كيف استطاع مهرجان أن يحدث كل هذه الفروق النوعية فى الحركة المسرحية فى مصر والوطن العربى؟ وما تأثير «التجريبى» على فنانى المسرح فى مصر والوطن العربى؟ هذا هو السؤال الذى طرحناه على فنانى المسرح من جيل التسعينيات، الذين عاصروا نشأة المهرجان وكذلك على ضيوف المهرجان التجريبى فى دورته الحالية، التى افتتحت مطلع سبتمبر- رجوعًا إلى موعده الثابت منذ نشأته- لنتأمل تلك الآراء ونتساءل عن أهمية الثقافة والفنون كقوى ناعمة قادرة على تغيير العالم للأفضل.
وعن أثر مهرجان القاهرة التجريبى على فنانى المسرح بمصر من جيل التسعينيات، يقول طارق سعيد، مخرج مسرحى مصرى، مؤسس فرقة «الضوء» المسرحية: «أتممت دراستى الجامعية وأسست فرقتى المسرحية فى نفس عام انطلاق المهرجان التجريبى، سنة ١٩٨٨، وشاركنا فى الدورة الأولى، وشعرنا بارتباط قوى مع هذه الفعالية الفنية القوية، وبعد مرور ٣٤ سنة، أرى تأثير هذا المهرجان على الحركة الفنية فى مصر والعالم العربى كبيرًا، لأنه كوّن رؤية مغايرة للمسرح لدى الفنانين، إذ قدم لنا تجارب تختلف كلية عما كنا نشاهده دائمًا من مسرح».
وأضاف «سعيد»: «قدم المهرجان تجارب متنوعة، كنا نراها فى وقت متقارب، فكنا نخرج من عرض يابانى فى المسرح المكشوف ونهرول لمشاهدة عرض بلجيكى فى مسرح الطليعة، ثم نختتم اليوم بعرض فرنسى فى مسرح الجمهورية.. كنا ننبهر من استخدامهم المغاير لنفس الفضاء المسرحى، وكان للورش والندوات والمطبوعات أثر رائع فى خلق جيل يرى المسرح بطريقة مبتكرة».
وعن أهمية المهرجان، يقول محمد شرشال، مخرج جزائرى حاصل على جوائز محلية ودولية عديدة، ومنظر ورشة «إعداد الممثل» بالدورة الحالية للمهرجان التجريبى: «من ميزات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى هذا الكم الهائل من العروض المقترحة من دول مختلفة، بكل ما تحمله كلمة اختلاف من معنى. هذه العروض تعتبر فعلًا نافذة نرى من خلالها تجارب الآخر، خاصة إن كان هذا الآخر لا يشبهنى؛ آخر يبحث فى مساحات وفضاءات غير تقليدية، حاملًا رؤى وخطابات جديدة تجعلنا نتورط فى مراجعة حساباتنا واختياراتنا الجمالية ومستويات أفكارنا وحتى طريقة عملنا».
وأضاف «شرشال»: «الجميل أن المهرجان لا يكتفى باقتراح عروض مسرحية، بل يتعدى ذلك إلى تنظيم ندوات فكرية ينشطها أكبر وألمع المنظّرين للفعل التجريبى، فضلًا عن الطباعة والتوزيع لكثير من الدراسات النظرية المتخصصة، والتى تتطرق كلها إلى جوانب وزوايا متعددة حول التجريب فى المسرح وتسليط الضوء على مناطق لا ينتبه إليها أحد».
وتابع: «هناك أيضًا الورش التدريبية التى تقدم للشباب المتعطش وجبات دسمة، توضح آخر ما وصلت إليه الأساليب التمثيلية والإخراجية معًا.. كل هذا الثراء فى البرنامج لا يمكن إلا أن يطور لغة المسرح فى مصر، خاصة كونها حاضنة المهرجان، وفى الوطن العربى من خلال الضيوف والمشاركين العرب، فمن غير المعقول ألا تكون هناك ردة فعل من الجمهور والمهتمين، حيال مهرجان نبيل ومهم اسمه القاهرة الدولى للمسرح التجريبى».
وعن الأثر الكبير للمهرجان على المسرح السعودى، يقول الدكتور سامى جمعان، الكاتب والباحث المسرحى السعودى، مؤسس رابطة الإنتاج المسرحى المشترك: «مهرجان المسرح التجريبى له أثر عميق فى حياتى المسرحية، إذ واكبته فى دورات مبكرة، ممثلًا وضيفًا ومحبًا وشغوفًا، لقد صنع التجريبى منى شخصًا متطلعًا للأفضل».
وأضاف «جمعان»: «أتذكر موقفًا له أثر كبير؛ فبعد أن شاهدت مجموعة عروض مذهلة عدت إلى السعودية، وكانت الفرقة تستعد لعرض جديد، وتصديت لإخراج المسرحية وكنت محملًا بالحماس والأفكار الجديدة، التى تركتها فى نفسى تلك العروض، وكأن مفهوم الإخراج وآلياته تبدل فى ذهنى بعد حضور تلك الدورة، كما شاركت ممثلًا فى إحدى دورات المهرجان فى مسرحية اسمها (تراجيع) وكنت فى غاية الفرح بالإسهام مع زملائى فى التنافس بالمهرجان، والدخول فى مسابقته».
وأوضح: «لا أقصد بهذا مجرد الأثر السطحى أو البسيط، بل تراكم المعرفة من خلال دورات المهرجان المختلفة، وأعنى أن هذا المهرجان غيّر فى مفاهيم عدد هائل من المسرحيين، لأنه كان يأتى بمستجدات الساحة المسرحية، وبدائلها المتجددة، ولدىّ مقترح أقدمه لإدارة المهرجان يقوم على آلية اختيار العروض، بحيث يجرى اختيار العروض من قبل لجنة خاصة تحضر أهم المهرجات العالمية، وترشح أكثر عروض متميزة، لتكون فى هذا المهرجان على أرض مصر، وبذلك نضمن ألا تقدم فيه إلا العروض المتميزة عالميًا فى هذا المجال».
وعن الحراك المسرحى بالمهرجان، يقول الدكتور هشام زين الدين، الكاتب والباحث والمخرج المسرحى اللبنانى: «الأثر الذى يتركه حضور أى مهرجان مسرحى فى المطلق هو إيجابى حكمًا، حتى لو تخلل هذا المهرجان بعض العروض غير الناجحة أو التى تفتقد إلى التميز النوعى. وفى مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى يتعاظم الأثر بالنسبة لنا كمسرحيين لسببين، الأول يتعلق بالتجريب نفسه، وهو الطريق المؤدى إلى تطوير الذات إبداعيًا من خلال مواكبة المنجز المسرحى الحداثى محليًا وعربيًا وعالميًا، وبالتالى هو تعليم غير مقصود ومستمر، نستفيد منه جميعًا مهما بلغنا من مراتب وتجارب ومواقع، فنحن كمبدعين نبقى طلابًا دائمين بحاجة إلى التجريب لاكتشاف الجديد وفتح آفاق مستقبلية فى تجاربنا، وهذا ما يؤمنه لنا مهرجان المسرح التجريبى سنويًا، وعلى الصعيد الشخصى اختبرت ذلك من خلال مواكبتى وحضورى لهذا المهرجان فى غالبية دوراته الأخيرة».
وتابع «زين الدين»: «السبب الثانى- المهم أيضًا- يتعلق بالحراك المسرحى العربى عمومًا، وأمتلك الجرأة لوصفه حراكًا لا يزال غارقًا فى التقليد، وذلك بسبب الأزمات والمعوقات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية التى تقتل فى التجربة المسرحية كل محاولات التطوير والتغيير والسير فى طريق الحداثة المتغيرة والمتحولة دائمًا، وفى هذه النقطة بالذات يبدو لى أن دور المهرجان طليعى، بحيث ينفرد بصيغته التجريبية وبتميز عن باقى المهرجانات واللقاءات المسرحية العربية ليغطى مساحة العالم العربى كلها، وبذلك يشكل حالة استقطاب وتأثير كبيرة ومؤثرة ليس فقط مسرحيًا من خلال تطوير أدوات المسرحى الإبداعية، بل بتركه للأثر الاجتماعى والإنسانى والسياسى فى الجانب المعرفى والفكرى الذى يتأثر بفكرة التجريب نفسها، وينعكس على سلوكيات المجتمع الذى يحتضن تجارب المسرحيين التجريبية».
وقال الدكتور محمد حسين حبيب، الكاتب المسرحى والباحث العراقى: «يعد مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى أحد المهرجانات المسرحية العربية المائزة فى فعلها الثقافى الثابت والرصين، عبر ٢٩ دورة مسرحية أعطت الكثير وقدمت أكثر للثقافة المسرحية العربية عبر فعلها الراكز تخطيطًا وإعدادًا وتنظيمًا وعروضًا وإصدارات مهرجانية، وتعد هذه الأخيرة مثلًا مرجعًا علميًا أكاديميًا وثقافيًا للعديد من الجامعات العربية، عبر إنتاجها هذا الكم الهائل من الأبحاث والدراسات العلمية الحديثة التى أسهمت هى الأخرى فى الترويج والإفادة من هذه المطبوعات المهرجانية المصرية، منها ما هو مترجم وآخر مؤلف».
وأوضح «حبيب»: «أهمية التنوع فى عروض هذا المهرجان أن العروض تعطى نكهة خاصة، وتقدم مستويات إبداعية متباينة يمكن أن نجدها فى كل دورة مهرجانية، إذ نشاهد أنواعًا مسرحية مختلفة مكانيًا وزمانيًا ونصيًا وأدائيًا وتقنيًا».
وتابع: «إذن نحن أمام وعاء كبير حاضن وشامل للفكر والجمال المسرحى المتنوع حسب طبيعة أصل المسرح وتحولاته المرحلية التاريخية التى انطلقت من التقليدية إلى الحديثة، ثم إلى التجريبية المعاصرة والممتدة أبدًا، وصولًا إلى الدراما الرقمية، وأخذ منا هذا الأخير ثلاثة أيام نقاشًا وبحوثًا عبر الندوة الفكرية الرئيسة للمهرجان، وقد أشبعت مفاهيم وطروحات فلسفية مهمة جدًا، وفعلًا كانت انتصارًا للفكر المسرحى الذى نحتاجه اليوم، لأنه فكر يهتم بالمستقبل أكثر من الحاضر».
وعن دور المهرجان فى الحوار الثقافى، يقول الدكتور محمد سمير الخطيب، الباحث والناقد وأستاذ الدراما: «مهرجان القاهرة الدولى للمسرح الثقافى شكل حدثًا فنيًا وثقافيًا فى آن واحد، فقد كان محاولة لتحريك المياه الراكدة فى الصناعة المسرحية، لأنه تحول إلى همزة وصل مع الثقافات الأخرى غير العربية، إضافة إلى تحول أيام المهرجان إلى ملتقى إنسانى وفنى يلتقى فيه الفنانون لمناقشة الهموم المسرحية المشتركة».
وأكد «الخطيب»: «شكلت فعاليات المهرجان وجدان كثيرين من ممارسى المسرح فى مصر والوطن العربى، كما أن عروضه المسرحية الفارقة أسهمت فى تشكيل حساسية فنية جديدة فى مسرحنا العربى، ومن منا ينسى أهمية الكتب التى أصدرها التجريبى فى مختلف فروع المسرح من تمثيل وإخراج ونقد مسرحى؟ ومن ثم أصبحت أهمية المهرجان بمثابة الجسر الذى يربط بين الثقافة المصرية والثقافات المختلفة وخلق حوار ثقافى مسرحى بينهما».