تكرار سيناريو عصبة الأمم
أوجه التشابه المذهلة بين الماضى والحاضر تجعلنا نتوقف طويلًا، بالفحص والدرس، أمام دعوة ليندا توماس جرينفيلد، المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة، إلى انتزاع حق النقض، الفيتو، من روسيا، التى قابلها دميترى مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسى، بتحذير شديد اللهجة من أن الأمم المتحدة ستلقى مصير عصبة الأمم لو تم التعدى على صلاحيات الأعضاء الخمسة الدائمين فى المجلس.
لم تكن الحرب العالمية الثانية هى الدليل الوحيد على فشل «عصبة الأمم»، لكنها كانت الدليل القاطع، أو الحلقة الأخيرة فى مسلسل فشل العصبة فى أداء مهمتها الرئيسية. إذ كان العادى هو ألا تلتزم الدول الكبرى بمبادئها، وأن ترفض التصديق على قراراتها. بالضبط، كما يحدث، الآن، مع «منظمة الأمم المتحدة»، التى لم تلتزم الدول الخمس دائمة العضوية فى «مجلس الأمن» بميثاقها أو بأى قرارات أو مبادئ تتعارض مع مصالحها. ولم يحدث أن قوبل ذلك، أو قوبلت الانتهاكات المتكررة للشرعية الدولية، بأى رد فعل. وسبب ذلك ببساطة هو أن الحق بلا قوة لا يمكن أن ينتصر فى أى معركة.
بعد الخراب، الذى خلفته الحرب العالمية الأولى، تعالت الأصوات المطالبة بأن تكون تلك الحرب هى «حرب إنهاء الحروب»، وظهرت مقترحات بإنشاء منظمة دولية تهدف إلى منع قيام حروب مستقبلية، عبر الدبلوماسية المفتوحة، وتقييد حق الدول فى إعلان الحرب، وتوقيع عقوبات صارمة على التى تفعل ذلك.
أبرز تلك الأصوات وأكثرها حماسًا لفكرة إنشاء تلك المنظمة كان الرئيس الأمريكى الثامن والعشرون، وودرو ويلسون، ونص المبدأ الأخير، من مبادئه الأربعة عشر للسلام، التى أعلنها أمام الكونجرس فى ٨ يناير ١٩١٨، على ضرورة «تشكيل جمعية عامة من الأمم لمنح ضمانات متبادلة من الاستقلال السياسى والسلامة الإقليمية للدول الكبرى والصغرى على حد سواء». وعن هذا المبدأ، حصل ويلسون على جائزة نوبل للسلام سنة ١٩١٩، غير أن الولايات المتحدة رفضت الانضمام إلى العصبة أو التصديق على ميثاقها، بزعم أن نظامها الأساسى، أو التأسيسى، يتيح للدول الأوروبية الاستعمارية الاستئثار بغنائم الحرب العالمية الأولى!
المهم، هو أن «عصبة الأمم» تأسست سنة ١٩١٩، وعقدت جمعيتها العامة اجتماعها فى جنيف، منتصف نوفمبر ١٩٢٠، ولم يزد عدد الدول الأعضاء فيها على ٥٨ دولة، فى أقصى فترات ازدهارها. وكانت أهدافها الرئيسية، حسب ميثاقها، هى الحد من انتشار الأسلحة، وتسوية المنازعات بين الدول عبر المفاوضات والتحكيم، ومقاومة الاتجار بالبشر والسلاح والمخدرات، والعناية بالصحة العالمية و... و... وتولّى مهام توجيه أعمال الجمعية العامة وتنفيذ قراراتها «مجلس عصبة الأمم»، الذى ضم فى بداية تشكيله أربعة أعضاء دائمين وأربعة غير دائمين، تنتخبهم الجمعية العامة، ثم ارتفع عدد الأعضاء الدائمين إلى خمسة وغير الدائمين إلى عشرة، ليكون الإجمالى خمسة عشر عضوًا، كعدد وتركيبة مجلس الأمن الحالى.
المبادئ، التى تأسست عليها عصبة الأمم، كانت سامية طبعًا، كتلك التى تأسست عليها الأمم المتحدة، غير أن ممارسات الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس العصبة، ثم فى مجلس الأمن، كانت عكس ذلك تمامًا. ولا نرى أى جدوى من المطالبات المتكررة، أو المزمنة، بتوسيع الأخير أو بإصلاح الأمم المتحدة إجمالًا، طالما بقيت الاستجابة مرهونة بموافقة كل الدول الخمس صاحبة المصلحة فى بقاء الوضع على ما هو عليه.
.. وتبقى الإشارة إلى أن مصر، التى انضمت إلى عصبة الأمم فى ٢٦ مايو ١٩٣٧، كانت آخر الدول المنضمة إلى الجمعية العامة، ثم تم ضمها مع بوليفيا وجنوب إفريقيا إلى الأعضاء غير الدائمين بمجلس العصبة، فى ١٣ ديسمبر ١٩٣٩، أى قبل يوم واحد من التصويت على قرار طرد الاتحاد السوفيتى، بسبب غزوه فنلندا. واللافت هو أن هذا القرار كان آخر أعمال عصبة الأمم، التى توقفت، عمليًا وفعليًا، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. وظلّ قصر السلام، المقر الرئيسى للعصبة، شاغرًا لأكثر من ست سنوات، حتى اجتمع مندوبو الدول الأعضاء، التى تقلص عددها إلى ٣٤ دولة، فى أبريل ١٩٤٦، ليقرروا تصفية أصولها وإعلان وفاتها.