الخروج من «الكمبوند»!
تشغلنى قضية «جهل المتعلمين» بقدر ما تشغلنى قضية «انتهازية بعض المثقفين» وبين القضيتين ثمة ممارسة ضارة وهى المغالطة.. وقيادة الرأى العام فى اتجاه خاطئ.. يضر ولا يفيد.. ويهدم ولا يبنى.. ويقول إن الطريق مسدود لكنه لا يقدم حلولًا لفتح الطريق.. ويقول إن الظلام قادم لكنه لا يخبرنا بأن كل غروب يتبعه شروق.. ترتبط بهذه الفكرة ممارسة أخرى شاعت قبل ثورة يناير وهى القراءة السياسية للبيانات الاقتصادية أو تطويع البيانات الاقتصادية لخدمة أغراض سياسية.. وهى فكرة تنطوى على عدم نزاهة علمية، فضلًا عن أنها أحد الأساليب المعروفة فى المغالطة السياسية.. والانطلاق من مقدمات خاطئة يقود إلى نتائج خاطئة وهو ما يكاد الجميع يتفق على أنه جرى ويجرى بشكل أو بآخر.. آخر النماذج لفكرة المغالطة فى تحليل البيانات هو فكرة يجرى تداولها وتعميمها تربط تصنيف الطبقات فى مصر بنسبة التعليم الخاص فيها.. وقد طالعت هذه الفكرة لأول مرة على شاشة إحدى القنوات الخاصة وكان يرددها إعلامى شهير أحسبه من مدعى الثقافة والوطنية معًا.. حيث كان يرد على فكرة متفائلة حول تنوع المجتمع المصرى واتساع الطبقات فيه وإننا منا الغنى ومنا الفقير وإن عدد الفقراء لدينا كثير بالفعل ولكن عدد الأغنياء لدينا كثير أيضًا.. والدليل أن كل الشركات العالمية تسعى لفتح عشرات الفروع فى مصر لأننا سوق كبيرة ومتسعة ولدينا ملايين لديهم قدرة شرائية عالية وأن هؤلاء الملايين «سنفترض أنهم عشرة بالمائة فقط» يفوقون فى أعدادهم عدة شعوب عربية ميسورة الحال.. لكن الإعلامى المذكور ولسبب يخصه قرر أن يرد على الفكرة ويقول إن نسبة الطلاب فى التعليم الخاص لدينا سبعة فى المائة فقط وبالتالى فإن أقصى نسبة للطبقة الميسورة فى مصر هو سبعة فى المائة.. مر وقت وقرأت مقالًا رصينًا لباحثة زميلة فى صحيفة يومية مستقلة قررت فيه أن تطبق نفس هذا المنهج الذى أعتبره فاسدًا وقالت إن عدد المنتسبين للتعليم الخاص فى مصر هو أربعة فى المائة فقط من إجمالى الطلاب وإن عدد المنتسبين للتعليم الدولى هو نصف فى المائة فقط من إجمالى الطلاب وهذا يعنى أننا عدنا إلى مجتمع النصف فى المائة!! وإن عدد الأثرياء فى مصر لا يتجاوز نصف مليون.. والحقيقة أن هذا الكلام يبدو فى ظاهره براقًا ولامعًا لكنك عندما تدقق فيه تكتشف أنه ينتمى إلى فئة «الأى كلام» بامتياز.. فالنصف فى المائة من عدد الطلاب لا يعنى النصف فى المائة من عدد الشعب.. لأن عدد الطلاب شىء وعدد الشعب شىء آخر.. وافتراض أن الميسورين فى مصر جميعًا يلحقون أبناءهم بالتعليم الخاص فكرة تكشف عن جهل عميق بالواقع المصرى وبالخريطة الاجتماعية المصرية وبالتكوين الاجتماعى للأثرياء فى مصر.. وهذه كلها نتائج حتمية لأن بعض إعلاميينا وكتابنا لا يفارقون «الكمبوند» أبدًا ويدعون أنهم يفقهون الواقع أكثر من أى أحد ويريدون من الناس أن تسمع كلامهم الملون بالهوى والغارق بالجهل.. لأن زيارة واحدة من هؤلاء الإعلاميين والكتاب لأسواق مثل الموسكى والعتبة والرويعى وشارع عبدالعزيز والأزهر والحسين.. إلخ ستجعلهم يتعرفون على نوع آخر من الأثرياء غير من يعرفونهم.. يديرون رءوس أموال تتفاوت بين الملايين وعشرات الملايين ومئات الملايين والمليارات أيضًا ولا يتعلم أبناؤهم فى مدارس خاصة وربما لا يتعلمون من الأساس ويفضلون أن يشاركوا فى تجارة الآباء بعد تعليم متوسط أو قصير.. نفس الأمر ينطبق بكل تأكيد على الآلاف من كبار ومتوسطى ملاك الأراضى فى الريف المصرى.. حيث يصل سعر الفدان فى بعض مناطق الدلتا لمليون جنيه أو يزيد.. وبالتالى فإن من يملك عشرة أو سبعة فدادين هو ثرى أو ميسور الحال بكل تأكيد.. ومع ذلك فمن سابع المستحيلات أن يرسل ابنه للتعليم الخاص لأسباب ثقافية أولًا أو لعدم توافر هذا النوع من المدارس فى قرى ومدن الريف الصغيرة ثانيًا.. النقطة الأهم أن من يلجأ للاستشهاد بالتعليم الخاص كمؤشر وحيد على اليسر الاجتماعى للمصريين عليه أيضًا أن يضم إليه نسبة طلاب الجامعات الخاصة.. حيث يفضل الكثير من الآباء حاليًا أن يعلموا أبناءهم فى التعليم الثانوى العام ثم يلحقوهم بجامعات خاصة حتى يحققوا لهم رغباتهم فى الدراسة فى كليات لم يتحها لهم مكتب التنسيق، والمعنى أننا لا بد أن نضيف هذه الشريحة من المصريين أيضًا للمصريين الميسورين كما نضيف من يرسلون أبناءهم للمدارس الخاصة والدولية، وكما يجب أن نضيف أيضًا التجار والزراع الكبار والمتوسطين وأصحاب الصناعات الناجحة غير المرخصة وكل أفرع النشاط الناجح وغير المسجل.. والمعنى أن الواقع المصرى خاص جدًا ومعقد جدًا ومركب جدًا.. وأن الجلوس فى المكاتب المكيفة لا يصلح للتعامل مع هذا الواقع.. كما أن جلوس بعض مثقفينا وكتابنا فى قمة الهرم الطبقى مع ممارسة تسويد حياة الناس هو تناقض مريض يجب التوقف عنه والخلاص منه فضلًا عن أنه جهل فادح يجب التوبة عنه بمحاولة التعلم أو التوقف عن الفتوى بغير علم ولو لبعض الوقت.. والله أعلى وأعلم.