رسائل مهرجان القلعة
لا أريد لتدافع الأحداث أن يجرفنى بعيدًا عن تحية واجبة لكل مسئول ساهم فى أن يخرج مهرجان القلعة للموسيقى والغناء بصورته المبهرة التى خرج عليها هذا العام.. ولا لذلك المسئول الذكى الذى أصدر قراره ببث فعاليات المهرجان عبر شبكة تليفزيون الحياة لينهى عصرًا من الخصومة بين الثقافة والإعلام كنوع من العناد الشخصى بين مراكز القوى فى عهد مضى وانعكس فيه هذا العناد بالضرر على المواطن المصرى وثقافته ووعيه.. والحقيقة أن هناك عشرات الرسائل الإيجابية فى حدث قد يبدو بسيطًا مثل تنظيم مهرجان القلعة، منها أن هناك فى مركز القرار من يعرف قيمة الفن الأصيل ويسعى لنشره بين عموم المصريين بعد عقود انتشر فيها كل ما هو غث ورخيص وتجارى حتى أصبح هو الأصل وما عداه هو الاستثناء وكأن هناك من كان يسعى ليكون «الآلتية» و«كدابى الزفة» و«الجهلاء» و«مطربو المهرجانات» هم عناوين الفن المصرى بدلًا من «عمر خيرت» و«على الحجار» و«مدحت صالح» وغيرهم من المطربين المحترمين الذين غنوا للناس فى مهرجان القلعة فأسعدوهم وسعدوا بهم.. وثانى هذه الرسائل أن «القيمة» أمر مختلف تمامًا عن «السعر».. فالأعلى سعرًا ليس بالضرورة أن يكون هو الأكثر «قيمة»، ينطبق هذا على البشر والأماكن والمهرجانات والمطربين أيضًا.. فمسرح مثل محكى القلعة قد لا يتكلف الكثير لتجهيزه بالمقارنة بغيره ولكنه يفيض سحرًا لأنه وسط مكان ساحر كل حجر فيه تحته تاريخ وله قصة.. والمطربون الذين غنوا قد لا يكونون الأعلى سعرًا بمعيار المال وأثمان التذاكر، لكن لهم قيمة عظيمة صنعتها مئات الأغانى التى قدموها والكلمات المميزة لكبار شعراء مصر الذين اختصوهم بها وألحان كبار الملحنين التى تزينت بها حناجرهم.. وهذه كلها منتجات مصرية أصيلة نضجت على نار الحضارة الهادئة وتراكمت طبقات الموهبة فيها جيلًا بعد جيل، وانتقلت من أستاذ لتلميذ صار هو فيما بعد أستاذًا لمن بعده.. وهكذا توارث المصريون الفن كابرًا عن كابر وجيلًا بعد جيل.
من رسائل مهرجان القلعة أيضًا انكشاف كذبة حقيرة روجها تجار الجهل وأعداء كل ما هو أصيل بأن «الجمهور عاوز كده» وهى عبارة كانت تردد دائمًا على لسان منتجى الفن الردىء لتبرير تقديم كل ما هو سطحى وساذج ورخيص بحجة أن الجمهور يريده.. والحقيقة أن صانعى الفن هم الذين يربون الجمهور ويصنعون ذائقته الفنية وليس العكس إلا إذا كانوا تجارًا هدفهم المكسب الرخيص والسريع.. ومن الرسائل أيضًا أن الدولة عادت لممارسة دورها فى رعاية عقل المواطن وتنمية ذوقه وفق رؤية واضحة تريد أن تنزل بالثقافة لرجل الشارع العادى فى القرى والنجوع وأحياء مصر الشعبية وفق مفهوم واضح للعدالة الثقافية وإيمان واضح بأن الثقافة للجميع.. من الرسائل غير المباشرة أيضًا أن فى مركز القرار من يعى قدر مصر وقدر الفن المصرى وكيف أنه إحدى أدوات القوة المصرية التى سلبت بفعل فاعل فى العقود الماضية عبر طرق مختلفة بعضها شريف وبعضها غير كذلك وبعضها نتيجة غفلة بعض المسئولين فى الماضى وبعضها نتيجة أشياء أخرى غير الغفلة، ولعل الرسالة النهائية أن مصر تستعيد نفسها بعد عقود من التغييب والتراجع ومحاولات الإضعاف، وأنها قادرة بإذن الله على تجاوز كل أزماتها ما دام صناع القرار فيها يملكون كل هذا الوعى بقيمة مصر ويسعون لرفع رايتها فوق الجميع كما تستحق دائمًا وكما كانت أبدًا.
إن هذا النجاح الكبير للمهرجان يرفع طموح كل محب لهذا البلد ويدفعنى للمطالبة بأن ينتقل مهرجان القلعة إلى محافظات مصر المختلفة، بحيث يُعقد كل شهر فى محافظة مختلفة.. ففى شهور الصيف يُعقد المهرجان فى المحافظات الساحلية مثل الإسكندرية ومطروح والعلمين ورأس البر، وفى شهور الشتاء يعقد فى الأقصر وأسوان والبحر الأحمر وشرم الشيخ.. ولا يشترط طبعًا أن يحضر كل هذا العدد من النجوم ولكن يمكن عقده بمن حضر، مع إتاحة الفرصة للمزيد من المواهب الشابة والفرق المحلية مع تطعيمهم بنجوم الصف الأول الذين يمكن أن يقوموا بإحياء حفلتى الافتتاح والختام مثلًا، على أن تتاح الفرصة للشباب لإحياء باقى الحفلات.. إن كل قرش يصرف على نشر الفن الراقى هو استثمار فى محله، وسحب من رصيد الإرهاب، وإشاعة لجو من البهجة نحتاجه جميعًا فى هذه الظروف المضطربة.. ولا شك أن هذا الاقتراح تحدٍ صعب ولكن الأكيد أن مصر تستطيع.