رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفكر الأردني فهمي جدعان: الفكر العربي ضل الطريق وما زال فى الدوران حول مفهوم «الحداثة».. والمشتغلون بالفلسفة أساءوا إلى الإبداع

المفكر الأردنى فهمى
المفكر الأردنى فهمى جدعان

أسبابٌ عدة تجعل المفكر الأردنى فهمى جدعان أحد أهم الوجوه الفكرية وأكثرها ثراءً على الساحة العربية فى الوقت الراهن. فمنذ حصوله على الدكتوراه فى الفلسفة الإسلامية من جامعة السوربون فى أواخر الستينيات من القرن الماضى، ظل منكبًا على دراسة تاريخية مُتفحِّصة تروم الوقوف على إشكاليات التردى العربى والنهضة المُجهضة ومسبباتها، وترصد تاريخًا طويلًا من الصراعات بين شتى التيارات الفكرية، ما جعله ينخرط فى معركة الحديث عن التراث ومكانته فى النهضة المأمولة من منظور معتدل ومتوازن ينأى قدر المستطاع عن الوثوقية الدُغمائية فى عدد من مؤلفاته، ومنها «أسس التقدم عند مفكرى الإسلام فى العالم العربى الحديث»، و«نظرية التراث»، و«المحنة- بحث فى جدلية الدينى والسياسى فى الإسلام».

يمثل هذا الوعى بالتراث وقضاياه عند المفكر ذى الأصول الفلسطينية حلقة من حلقات درايته بقضايا العالم العربى؛ ما سلف منها وما استجد، بل ما هو مُنتظر، ما جعله لا يتوقف عن تأمل أحوالهم لا سيّما عقب المنعطفات الكبرى فى ضوء المتغيرات العالمية والأزمات التاريخية والمستجدة، وهو ما ظهر فى بحوثه وبعض المؤلفات مثل «مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة» و«فتوحات شاردة لأنوار عربيّة مستدامة» وغيرهما.

فى الحلقة الأولى من هذا الحوار ناقشنا مع المفكر والأكاديمى الأردنى إشكالية التراث من منظور الماضى والحاضر، بالتركيز على المستجدات الخاصة بالجانب الدينى منه. وفى هذه الحلقة، يتحدث جدعان عن إشكاليات الهوية الثقافية والمتغيرات الراهنة والمتوقعة فى الثقافة العربية فى ضوء المستجدات العالمية، متطرقًا للحديث عن مآزق الفكر العربى فيما مضى ورؤيته لما ينبغى أن يكون كى يُنتج المفكرون العرب أطروحات ذات أثر فى تغيير فعلى بالواقع. 

■ هل من الممكن أو المنشود راهنًا الحديث عن خصوصية ثقافية فى ظل عولمة متوحشة تسعى لجرف الهويات الثابتة دون أن يعنى ذلك الارتهان لسجن هوية مغلقة؟

- ليست هناك خصوصية ثقافية مغلقة بإطلاق. الثقافة دومًا تاريخية، بمعنى أنها مشروطة بمعطيات متعددة الوجوه، مرتبطة بالمكان والزمان وبأفعال الإنسان وبالأحداث ومقترنة بعوامل التغيير والإزاحة والإضافة. لكن هناك دومًا «ثقافة وطنية» أو محلية مرتبطة بهذه الأمة أو تلك. وهذه الثقافة خاضعة دومًا للتغير والتطور، وأحيانًا للزوال.

هذا يعنى أيضًا أن «الهويات الثقافية الثابتة» لا وجود لها على وجه قطعى. وفيما يتعلّق بنا، على وجه التمثيل، الثقافة فى العصر الإسلامى المبكر ذات معالم خاصة، لكنها فى العصر الأموى اتخذت اتجاهات جديدة إلى جانب واقع استمرار أشياء من العصر السابق، وكذلك ثقافة العصر العباسى تغيرت وتبدلت أكثر من مرة وابتعدت عن سابقاتها. وهكذا دواليك. ونحن اليوم، دون أن أتكلم على «إبستيميه» جديدة بإطلاق، نخضع لتأثيرات عولمية عظيمة ونتفاعل مع معطياتها باستمرار، وهذا واضح فى مختلف مسالكنا الفكرية والأدبية والأخلاقية والاجتماعية.. إلخ.

ثمة ثقافات «تقاوم» معطيات العولمة الثقافية، الحالية، لكن هذه المعطيات هى معطيات غير نهائية، إذ هى متغيرة على الدوام. كان التغير والتحول فى التاريخ قرينًا لجميع الثقافات، لكن الجديد هو أن هذه العملية باتت اليوم أسرع مما كانت عليه فى الأزمنة الماضية، لا بل باتت سريعة وموغلة فى السرعة. من المؤكد أن التأثيرات ستكون ملازمة لهذا الخطو العولمى السريع. لكن من الذى يضمن أن تظل الأمور على الحال نفسها إذا ما انحسرت الهيمنة القطبية الأحادية الجارية حاليًا؟

■ هل ترجح إمكانية تغير معطيات العولمة الثقافية الحالية؟

- ليس سرًا أن العولمة المتوحشة القائمة اليوم تستند إلى الهيمنة الأحادية الرأسمالية النيوليبرالية التى تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وهى التى تفرض النظم والتقاليد والبدع والفنون، وهى التى تهدد الثقافات المحلية أو الوطنية وتنسف قواعدها أو تجرفها، والذى يجرى اليوم هو أن هذه الثقافة العولمية الأمريكية المتوحشة مهددة تهديدًا حقيقيًا بالتراجع وبقدوم معطيات ثقافية وحضارية متعددة ومتباينة.

■ بعد أن صارت العولمة الثقافية واقعًا لا سبيل للحيدة عنه، هل من سبيل لاجتناب فرض الثقافة الموحدة وهى ثقافة الطرف الأقوى على ما عداها من الثقافات؟ 

- ليس كل شىء فى العولمة قد صار واقعًا لا سبيل للحيدة عنه. ما صار واقعًا قويًا هو العولمة الاقتصادية أما الثقافة فإنها فى كثير من الأماكن والوجوه «تقاوم» وترفض إملاءات العولمة، ومنذ أواخر القرن الماضى نشهد ثقافة «ما بعد الحداثة» التى هى شكل من أشكال رفض سرديات الحداثة المسرفة والهيمنة النيوليبرالية. 

■ فى هذا السياق، أذكر المثلية الجنسية التى تشيع وسائل الترويج لقبولها فى العالم العربى بل ودعمها.. ألا تعتبر هذا مثالًا لفرض قيم ثقافية على الثقافات الأضعف؟ 

- الجنسية المثلية التى تروّج لها قوى متعددة ليست إلا عَرَضًا تروج له ثقافة ما داخل ثقافات. وفى المجتمعات الغربية نفسها التى «تسمح» لها بالظهور، التزامًا بمبدأ الحرية، تجد قيودًا وحدودًا. وهى ليست جزءًا من «القيم الثقافية» الغربية العليا. لكن باسم حقوق الإنسان التى تحرّك «ثقافة ما بعد الاستعمار» تجد فيها ما يتيح لها التأثير فى الثقافات «المختلفة» كالثقافة الإسلامية وترويج القيم المناهضة لهذه الثقافة. وهذه مضطرة إلى «المقاومة». 

■ وماذا عن التوجه النِسْوى بالعالم العربى.. هل يغلب عليه الاتباع دون قراءة فاحصة لمقتضيات الواقع العربى؟ 

- النزعة «النسوية» التى ظهرت فى العالم العربى حتى اليوم كانت نسوية «معتدلة» تنحصر فى الدفاع عن حقوق المرأة وعن مبدأ المساواة بين الجنسين، لكنها لم تذهب إلى حدود ما أسميته «النسوية الرافضة» التى ظهرت فى الغرب وجسدتها مفكرات أو كاتبات مفتونات بالمثال الغربى المناهض للقيم الإسلامية.

■ قدمت أدبيات ما بعد الحداثة نقدًا لوجوه الحداثة المختلفة منذ منتصف القرن المنصرم، ورسمت جائحة كورونا صورة جلية تعكس وجاهة هذا النقد، وهو ما جعلك تدعو إلى «تعديل طباع الحداثة النافرة». هل تعوّل على إمكان نشوء حداثة عربية «عادلة» انطلاقًا من مرتكزات ما بعد الحداثة؟ هل ثمة ما يبرر هذا الأمل؟ 

- إذا ظللنا أسارى لمنطق الحداثة ذاك، ندور وراءه حيث يدور، فلن ندرك شيئًا حقيقيًا، لأن المفهوم نفسه فى تحول مستمر هناك. وإذا كان علينا أن نحتفظ بالمفهوم ونلحق أنفسنا به فإنه يتعين أن نقاربه وفقًا لمعطياتنا الذاتية. وفى جميع الأحوال علينا أن نتفق على فهم دقيق للمفهوم، لأن المفهوم نفسه لم يعد هو عين ما بدأ عليه عند نجومه وتبلوره فى القرون الثلاثة المنصرمة. 

نحن نعلم أن «سرديات الحداثة» قد طالها جميعًا النقد أو التغيّر، وحين نستمر على الوقوع فى عشقها فإنه يتعين علينا أن نتبيّن حدود ما تبقى أمينًا منها. فسرديات العقلانية والاستقلال الذاتى والتقدّم والعلم.. إلخ لم تعد راسخة أو يقينية، ودعاوى «ما بعد الحداثة» التى تشكك فى الحداثة هى أيضًا خاضعة للنقد والشك والمراجعة، وهى ليست مما يتعين التسليم به. هل نأمل شيئًا صلبًا آمنًا حين نُسْلِم أنفسنا إلى هواجسها وقلقها وشكوكها؟ بماذا ينفعنا- نحن العرب- أن نَخلْد إلى مركزية الذات أو الأنا التى يتموضع فيها ما بعد الحداثة؟ أو أن نسلّم بأن الحياة باتت بلا معنى وأن الوجود محض فراغ؟ أو أن العقل غير ذى ثقة أو أن نقول بموت النزعة الإنسانية وبالعدمية وتحطيم الهوية والنسبية المعرفية والأخلاقية والتعددية السادرة.. إلخ؟ 

أنا أعتقد أن الفكر العربى الفاقد الأصالة قد ضل الطريق، وما زال فى الدوران حول هذين المفهومين اللذين مثلا صيرورة الروح الغربية الحديثة. ما يتعيّن عليه اليوم هو أن يعود إلى معطياته الذاتية المباشرة و«يفكر» فيها و«يتفكر»، تمامًا مثلما فعل ابن خلدون. 

■ إلى أى مدى تتفق دعوتك إلى «تعديل طباع الحداثة» مع سمات «الحداثة الإسلامية» كما بيّنها الفيلسوف المغربى طه عبدالرحمن؟

- ما يفعله طه عبدالرحمن اليوم، وهو «متكلم» لا فيلسوف، يقترب من هذا النهج، لكن تمترسه فى «الروحى الضارب فى التصوّف» يجعل جهوده محدودة ومقصورة، لأن فضاء النظر ينبغى أن يذهب إلى أبعد مما يسميه «الائتمانية الروحية» التى لا أجد مسوغًا لنعتها بالحداثة الإسلامية.

■ تخليت عن الأمل فى إمكانية التوفيق بين التيارات الفكرية كما طرحته فى كتابك «الخلاص النهائى» بعدما عاينت تركز الدغمائية لدى كل تيار باختلاف منطلقاته الفكرية، فى المقابل دعوت للالتفاف حول «تكنولوجيا الديمقراطية». ما الذى تقصده بذلك؟ وكيف يمكن الأمل بإرساء ممارسة ديمقراطية بمجتمعات تخفق فى تطبيقها على أبسط مناحى حياتها؟

- أنا لم أتخلّ فقط عن الأمل فى إمكانية أى توفيق بين النظم الفكرية الأيديولوجية التى تكلمت عليها فى «الخلاص النهائى» وإنما تخليت أيضًا عن ثقتى فى إمكانية ممارسة ديمقراطية نزيهة فى مجتمعاتنا العربية. لا بل أذهب الآن إلى أبعد من هذا وأقول إن الديمقراطية الليبرالية نفسها التى يروج لها عندنا منذ غزو أمريكا العراق هى ديمقراطية لنظام سياسى اقتصادى تحكمه الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق والمطامع الاستعمارية الجديدة. ثم إن مفهوم «الانتقال الديمقراطى» الذى يدعو له بعضنا مفهوم تغلب عليه الطوبائية والانتهازية، والكذب، لأن دعاته الذين نعرفهم جيدًا ليسوا ديمقراطيين أبدًا، وهم فى أعماقهم وفى ممارساتهم العملية إقصائيون واستئصاليون لخصومهم، متعصبون متحالفون مع الفساد. بالطبع هذا لا يعنى «مديح الاستبداد»، فهو شر عظيم بل هو الشر الأعظم. 

شيئان أرى تقديمهما على أى شىء آخر: الأول: التوجه إلى إعادة تشكيل «القيم التربوية» بدءًا من التربية العائلية المبكرة والتعليم الأساسى، بحيث تتمثل الأجيال القادمة قيم الحرية والعدالة والاحترام والنزاهة والاعتراف.. أى أن تتمثل نظامًا من القيم حريصًا على بناء مواطن ليس هو المواطن الذى نعرفه.. الثانى تقديم قيمة العدالة على أى قيمة أخرى. نحن فى حاجة قصوى إلى إرساء وإعلان قيمة العدالة فى كل قطاعات الحياة.. وقيام هذه العدالة هو الضامن للحرية وليس العكس.. العدالة تضمن الحرية.. أما الحرية فلا تضمن العدالة. ومقولة المستبد العادل مقولة كاذبة بامتياز.

■ بعد جهودك البارزة فى مضمار الفكر على مدار عقود.. أين يمكن موضعة الفكر العربى فى الوقت الراهن لجهة إنتاج أطروحات فارقة تنطلق من الواقع ومتغيّراته؟ 

- غلب على الفكر العربى حتى اليوم الوصف أو التأريخ أو التحليل أو النقد.. لا الإبداع. وكان، بِشبه إطلاق، مقلدًا تابعًا. وهذه «اللوثة» هى التى تعلق بجملة الأعمال التى صدرت فيه. والمشتغلون فى الفلسفة هم أكثر من أساءوا إلى «آمِر الإبداع»، إذ صرفت الأغلبية منهم جلّ حياتها فى متابعة المنجزات الغربية تقليدًا أو تفسيرًا وعرضًا أو تحليلًا. والذين بذلوا جهودًا ذاتية إبداعية قلة بل ندرة. والسؤال الذى يساق عادة عند ذكر أى واحد منهم هو: إلى أى مذهب ينتمى؟ هل هو بنيوى أم تأويلى أم ماركسى أم فينومينولوجى أم تاريخانى أم هيجلى. وفى رأيى أن هذا السؤال فاضح ومخزٍ.. لأنه دليل قاهر على أن فكرنا خالٍ من الأصالة والابتكار. وهذا هو واقع الحال. 

أنا أفهم أن تعرض هذه المناهج أو المذاهب فى الدرس الأكاديمى، لكننى لا أفهم أن يقضى أحدهم كل عمره فى التعريف بهيجل أو بفوكو أو كانت.. دون أن يضيف أى جديد، أو أن يعترف به أحد. وأنا أُدين هذا الواقع المزرى. 

■ كيف يُمكن لهذا الفكر إذن أن يتغلب على مآزقه؟ 

- الواقع المباشر هو الأولويات التى يتعين على الفكر العربى التركيز عليها. مواطن الإبداع الفكرى تكمن فى المعطيات المباشرة التى تحتاج إلى فهم وتعليل واستنطاق واقتراح. واقعنا هو نقطة الانطلاق، وهو نقطة الانتهاء، ما هى القضايا الكبرى التى تهمنا وينبغى أن نتوجه إليها بالتفكير والنظر والفهم! لدينا أكثر من قطاع: اللغة والأدب، الدين والتاريخ والتراث؛ إشكاليات الإنسان العربى «المصرى، السورى، التونسى، المغربى، الفلسطينى....»، معانى الحياة والموت فى المجتمع الذى نحيا فيه، الاستقلال الفكرى والتحرر الإنسانى والوطنى وسؤال القيم.. إلخ. 

لست أنا من له حق اقتراح القضايا، وإنما المفكر نفسه هو الذى يتوجب عليه أن يجترح المعانى والقضايا والمشكلات والمفاهيم التى تستحق الاهتمام ويقوم بالتفكر والنظر فيها بأصالة وتفرد. 

■ ما السبيل لسيادة المنظور القيمى الذى تؤكد أهميته فى النظر الفكرى بالواقع الراهن الذى تحكمه التجاذبات والتصارعات بشتى أشكالها؟

- أعتقد جازمًا أن هذه المسألة تتعلق تعلقًا مباشرًا بوظيفة الدولة. يستطيع المفكرون ما شاء لهم الفكر أن يدافعوا عن قيم ومعان أخلاقية ضرورية لخير المجتمع وتقدمه، لكنهم لن يفلحوا فى إحراز تقدم حقيقى فى الفضاء العام الذى مثلما تذكرين تحكمه التجاذبات والصراعات والأهواء. 

يعود للدولة أولًا وآخرًا أن توجّه إلى نظم قيمية متفق عليها ولا شكوك حولها، وأن تتولى المؤسسات التربوية الرسمية هذه القيم وإذاعتها وإشاعتها دون قسرٍ أو إلزام، وذلك منذ السنوات المبكرة والتربية المدرسية الأساسية. وفى حدود وشروط الصدق والنزاهة والتربية القائمة على النقاش الحر المرسل والموضوعية والأمانة وعدم الانحياز الأيديولوجى أو الاستبدادى من جانب المؤسسة السياسية، لأننى لا أعنى ولا أطلب فرض نظام فكرى صارم على المجتمع لكننى أطلب نظامًا من القيم العليا التى لا يستطيع أحد إنكارها.