«الحديقة المُحرَّمة».. مغامرة روائية تمزج الواقع بالغرائبى
استطاعت المبدعة المصرية سهير المصادفة على امتداد ما يناهز العقدين أن تؤسس مشروعًا روائيًا له ملامحه المميزة، ما يجعل لها شخصية إبداعية تمتلك خصوصية تعبيرية فى كتابتها، فتأتى روايتها السابعة «الحديقة المُحرَّمة» لتضيف إلى سفرها الروائى ولتراكم منجزها الكتابى نصًا مهمًا. فى سرد المصادفة ثمة تراكب نوعى فى مستويات السرد وكذا فى دلالات الحكاية المنتجة عبر أكثر من مستوى تأويلى بين دلالات مباشرة وأخرى رمزية بعيدة مفتوحة على تنويعات متعددة لمعانى الحكاية، ما يجعل له تكوينًا متعدد الطبقات السردية والتأويلية.
فى رواية «الحديقة المُحرَّمة» يمزج السرد الواقعى بالغرائبى، والحدث الحكائى بالأمثولى فى تركيب خاص يجعل لسرد المصادفة كيمياءه المائزة، عبر تلك المراوحات بين الحدث الواقعى وما يبدو لأن يكون أقرب إلى حدث أسطورى وغرائبى: «ألْهم حىّ»... طارت الصّيحة من لسانٍ إلى لسانٍ، كانت تدقُّ الأبواب فتفتحها؛ لتوقظ النّائم، وتنبّه الغافل. ومع ارتفاع صوت الشّيخ أحمد زيادة بأذان الظّهر، انقلب نجع الزّرايب من أقصاه إلى أدناه، هجّ الأهالى من بيوتهم، وظلّوا واقفين أمام بيتنا حتّى غروب الشّمس، يتفرّجون علينا وكأنّهم يشاهدون فيلمًا سينمائيًا مسليًا.
لم يحدث شىءٌ غير عادىّ فى هذه البقعة المنسيّة على خارطة الكرة الأرضيّة؛ لينقلب النّجع فوق رءوسنا هكذا، فالسّماء كانت فى مكانها رماديّة ومتجهّمة كعادتها، والأرض تنفث حرارتها وذبابها اللّحوح فى وجوهنا، وخوار البقر كما هو رتيب ومملّ بنغمته الواحدة.
أتى النّاس من القرى القريبة وتحوّل فضاء البيت الكبير من الهدوء والعزلة كمنطقةٍ عصيّةٍ ومحرّمٍ الاقتراب منها إلى ما يشبه سيرك الغجر؛ فالصِّبية الصّغار الذين كانوا لا يجرؤ أحدهم على الاقتراب منه، يتسلّقون الآن مثل القرود أسواره العالية ونخله وشجرة التّوت العجوز، ويهلّلون للضّباط أثناء خروجهم ودخولهم من البوّابة الكبيرة، والنّسوة يهرعن إلى بيوتهنّ ليُحْضِرْنَ ما تيسّر من أطباقٍ بها بقايا طعام، يأكلها أزواجهنّ وأطفالهنّ بسرعة؛ ليواصلوا الفُرجة حتّى لا يفوتهم مشهدٌ واحدٌ من فيلم فضيحة هذه العائلة الغامضة أو «المفتريّة» كما كانوا يصفونها فيما بينهم سرًا.
فى سرد سهير المصادفة ثمة بنية «نووية» للأحداث، حيث حدث كبير يبدو صادمًا أو مدويًا فى آثاره، تستتبعه مجموعة أخرى من الأحداث والمواقف، كعودة «ألهم»، بطل هذه الحكاية، بعد غياب امتد لأربعين عامًا فى بقعة نائية، حيث جبال «المطاريد» والمارقين من قبضة العدالة والملاحقة الأمنية والثأر أيضًا، وما نتج عنه من أحداث تابعة كاستعجاب أهل القرية لعودته وسعيهم للفرجة عليه. لكن ثمة حركة بندولية بين تمددات الأحداث تصاعديًا نحو الأمام والنمو المتواتر من الآنى إلى التالى من ناحية، والارتداد الذى يستعيد الماضى وحكاية «ألهم» وهربه وقصة حبه من ناحية أخرى.
ثمة إحكام فى صياغات المصادفة السردية وتشكيلها مشاهد حكايتها حيث الحدث الرئيسى، كعودة «ألهم» إلى بيت العائلة والأحداث الأخرى التى يقوم بها الفواعل الثانويون الذين يؤدون دورًا أشبه بمجموعات «الكومبارس» فى خلفيات المشاهد السينمائية، كتجمهر الأهالى للفرجة على هذا الحدث الكبير ورُبَّما الصادم بالنسبة لهم.
تبدو لغة السرد عند المصادفة مراوحة بين الوصف الموضوعى المحايد والتشعير المجازى للأشياء والعناصر والأحداث، كما فى «فالسّماء كانت فى مكانها رماديّة ومتجهّمة كعادتها» فى تمثيل نفسانى للمعطيات التى تبدو كمرآة عاكسة لشعور الذوات النفسى، فإحساس الذات الساردة، أحد أصوات الحكاية وبطلتها، بالضيق قد انعكس على وصفها للسماء الذى اصطبغ بحس رومانسى حزين وشعور قانط بتجهم الوجود، وكذلك تشبيه التجمهر الذى قام به أهل القرية بما «يشبه سيرك الغجر» يبدو صورة متوافقة مع الواقع الاجتماعى الذى تدور فى رحابه أحداث الحكاية المسرودة، كما تتبدى بنية عنقودية لبعض الصور كتشبيه تسلق الصبية الصغار لأسوار البيت الكبير بأنَّه «مثل القرود» يبدو متفرعًا من التشبيه الإطارى للتجمهر ومتابعة ما يجرى من أحداث فى ذلك البيت الكبير بسيرك الغجر.
فى هندسة سهير المصادفة لحكايتها السردية ثمة ما يشبه الدوائر المتداخلة للأحداث والشخوص:
«ألْهَم حىّ»... تتسكّع الصّيحة الفرحة فى حوارى النّجع، ولا شىء يدور فى الأجواء سواها، فماذا حدث اليوم ليُبعثَ عمّى ألهم من موته حيًا؟ فى الصّباح مرّ علىَّ «سيكا» العبيط، وبلّغنى بآخر أخبار النّجع؛ لأعيد صياغتها وكتابتها على الكمبيوتر، ثم أرسل المناسب منها؛ الذى أثق أنّه لا يكْسِر أى سقفٍ سياسىٍّ أو جنسىٍّ أو دينىٍّ إلى إيميل جريدتى المحليّة «صوتُ الزّرايب»، التى لا يقرؤها أحدٌ، وهذا كلّ ما أفعل فى هذه الحياة، فأنا كما يطلقون علىَّ هنا: «جورنالجية».
«سيكا» هو وكالة أنبائى المتحرّكة، واسمه الأصلى جودة، وهو بالمناسبة ليس عبيطًا، وإنّما هو أكثر من رأيتهم ذكاءً وحركةً فى النّجع، لا يعرف أحدٌ سِنّه الحقيقية؛ فهو لا يكبر مثل كلّ النّاس، وإنّما يلبس زعبوطًا يغطّى شعره وحاجبيه ويجرى فى غيطان النّجع وحواريه الملتوية على نفسها كالثّعابين، منذ طلوع الشّمس وحتّى غروبها؛ ليلبّىَ حاجاتِ الجميع، وقد أطلقوا عليه «سيكا» منذ سنواتٍ طويلةٍ لأنّه يردّد دائمًا عندما يطلب منه أحدهم إحضار شىءٍ ما: «سيكا ويكون عندك».
فى الصّباح، قلّد لى «سيكا» بلثغته المريعة مذيعى نشرات الأخبار: «طردوا السّت بخيتة التى تجرى على ثلاثة أيتام من عملها فى الوحدة المحليّة، هى فى الخمسين من عمرها، وكانت عاملة نظافة هناك، فرأى مديرها رعشة يدها، وقرّر أنّها لم تعد قادرةً على الإمساك بمقشّتها»... «مات حصان عم برعى العجوز، وكان ثروته الوحيدة؛ يجرّ به عربة كارّو، يحمل عليها الخضروات من حقولنا، ويذهب بها إلى سوق المركز على بعد عشرين كيلومترًا؛ ليلتقط رزقه هناك»... «يقول أهل النّجع: إن نيزكًا يقترب من الأرض، وعلى وشك الاصطدام بها».
تنوع سهير المصادفة فى أنماط الشخصيات التى تطلقها عبر فضاء حكاياتها، فتتراوح بين المارقين العتاة والمتمردين الأقرب إلى كونهم شخصية أسطورية، كشخصية «ألهم» فى غيابه الطويل عن القرية لأربعين عامًا، فى المقابل شخصية «سيكا العبيط» الذى هو أقرب إلى شخصية «بهلول» القرية المستوحاة من الدراما الشكسبيرية، ذلك «البهلول» الذى يوارى خلف بلاهته الظاهرة معرفة عميقة بالأشياء والأمور الخطيرة. ذلك التوازن بين الشخصيات سواء فى النوع، الإناث فى مقابل الذكور، أو الطبيعة النفسية للشخصيات ما بين شخصيات حادة صارمة، وأخرى ضعيفة أو مُستلبة أو بلهاء، يخلق لدى المصادفة نوعًا من التوازن الدرامى للبناء الحكائى والتكوين السردى فى رواياتها.
ومن وسائل التشكيل الشعرى ذلك التدفق المتتابع لعدد من الأخبار التى تذكرها الساردة عبر شخصية «سيكا»، فيما يُمثِّل مسارًا آخر للسرد يتميز بكون هذه الأخبار المسرودة مثل الومضات الخاطفة المتتابعة التى يكون لها إيقاعها السريع.
تبدو رواية المصادفة جامعة بين السرد الغنائى، كما فى بث صوت الساردة لحكايتها مازجة الحكى الإخبارى بالإفضاء المشاعرى، والسرد الدرامى المتشكِّل من تراكيب الشخصيات ومواقفها المتمايزة وأيديولوجياتها المتقابلة، كما أنَّ هناك حركة مراوحة بين الدلالة الأولية للحكاية والدلالة الأمثولية التى تمسى معها عناصر الحكاية بمثابة شفرة دلالية لها نسقها التأويلى الموازى.