الباحث العراقى فالح مهدى: لا يمكن أن يحدث تغيير فعال دون عودة الدين إلى جوهره.. ونحتاج للتفكير لا التلقين
يسعى الباحث العراقى فالح مهدى لإقامة الحدود بين جوهر الدين المرتكز على الإيمان بخالق للكون، والأيديولوجيا التى تشكلت من توظيف النص الدينى واستغلاله تحقيقًا لمطامع ومصالح عبر التاريخ وفى مختلف الثقافات، وذلك فى عدد من مؤلفاته منها: «الخضوع السنى والإحباط الشيعى»، و«استقراء ونقد الفكر الشيعى»، و«البحث عن جذور الإله الواحد».
فى هذا الحوار، نناقش مع الباحث العراقى واقع الحالة الدينية بالمنطقة العربية ومستقبلها، انطلاقًا من كتاباته حول الدين والأيديولوجيا الدينية.
يميل مهدى إلى التشاؤم فى رؤيته للحاضر والمستقبل، إذ يرى أن المتغيرات فى العقود الأخيرة لن تكون ذات أثر ملموس ما دامت العقلية الدائرية ذاتها هى المهيمنة، وما دامت الأطروحات الدينية البالية هى السائدة. مع ذلك، لا يعتقد أن الدين قابل للاستبدال بأى ثقافة أو فلسفة مهما بلغت أهميتها أو قوتها، فكونه حاجة وجودية تجعل جذوره راسخة، فضلًا عن أن الدين، برأيه، لن يمثل أى مشكلة فى ذاته بالواقع ولن يكون مستقبلًا متى سادت ثقافة العقل.
■ انطلاقًا من مشروعك «فى نقد العقل الدائرى» اعتبرت أن الأيديولوجيا الدينية كانت الأخطر والأكثر إنتاجًا للتخلف على مدار العصور.. ما تفسيرك للقوة التى حظيت بها تلك الأيديولوجيا على مدار التاريخ؟
- فى البداية يجب أن نفرق بين الدين والأيديولوجيا الدينية. الدين يمثل اليقين من وجود خالق لهذا الكون ينظم شئونه بكل ما فيها من تفاصيل. هذا التعريف يمثل جانبًا من الفهم فهناك أكثر من تعريف يستند إلى ثقافة المكان، فالهندوسية لا تؤمن بخالق كما هو الأمر مع الديانات التوحيدية، والثقافة الصينية لا تؤمن البتة بمفهوم الخالق، فكل الفلسفة الدينية الصينية قائمة على مفهوم التنظيم ولا تتطرق إلى موضوع الخلق أبدًا.
على ضوء هذا التعريف، نجد أن الدين فى جوهره اعتقاد وإيمان. الأيديولوجيا الدينية ككل الأيديولوجيات تابعة لمفهوم الاعتقاد والإيمان، إذ تقوم بتوظيف ذلك الإيمان بما يخدم أهدافها.
لو تأملنا فى أساطير العهد القديم سنجد أن الإيمان بوجود خالق لهذا الكون تلاعب به كبار رجال الدين اليهود، فأصبح إله الكون إلهًا يهوديًا أولًا مهمته الأولى «الدفاع عن شعبه»، بل يقوم بمنح بلاد يسكنها أناس طيبون إلى «شعبه المفضل»، ويمتد كرمه ويتجاوز حدود فلسطين ويتحول من النيل إلى الفرات.
فى هذا المثال، نجد أن المهمة الأساسية للأيديولوجيا تتمثل بالتوظيف، فقد هيمنت الأيديولوجيا الدينية على ثقافة العالم القديم، وتسببت فى إلحاق الدمار بكل مرافق الحياة، ولم تخرج أوروبا من عصور الظلام إلا فى القرن السادس عشر بعد أن دخلت إلى العالم المعاصر وابتكرت نمطًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا لم يعرفه العالم القديم؛ قائمًا على مفاهيم المواطنة والتفكير.
فى العالم العربى ما زالت الأيديولوجيا الدينية طاغية، بسبب البقاء فى الحيز الدائرى، وهو ما أوضحته فى أطروحتى عن العالم القديم المنشورة فى القاهرة عام ٢٠١٥ بعنوان «نقد العقل الدائرى: الخضوع السنى والإحباط الشيعى»، فالتخلف الذى تقبع فيه هذه المجتمعات منذ قرون طويلة جاء بسبب تحكم الأيديولوجيا الدينية، وبينما أنهت أوروبا العلاقة بين المقدس والدنيوى، واعتبرت الدين علاقة بين الفرد وربه، ما زال بعض كبار رجال الدين يلعبون دورًا فى ترسيخ الأيديولوجيا الدينية.
■ قلت إن سر ديمومة السلطة الدينية يأتى من كونها وجدت فى حيز دائرى يعيد إنتاج ذاته.. ما المخرج الذى تظنه ممكنًا؟ هل من خارطة طريق يمكن اتباعها للخروج من تلك الدائرة؟
- ليس هناك من حل سحرى للأزمة الوجودية التى تعانى منها المجتمعات العربية بمستويات مختلفة، فى بعض المجتمعات يحتاج الأمر إلى معجزة، فى حين هناك مجتمعات أخرى قطعت أشواطًا فى طريق التقدم والتحضر. لا توجد مؤشرات وعلامات على تراجع الحيز الدائرى فى معظم هذه المجتمعات، فما زال مفهوم العلمانية بها مرتبطًا بالإلحاد على سبيل المثال، وما زال التلقين والتجهيل هما السائدين.
■ بعدما اكتوت البلدان العربية بنيران التوظيف السياسى للدين فى السنوات الأخيرة على وجه الخصوص وعقب الثورات العربية.. ما تصورك لشكل حضور الدين المحتمل فى المستقبل سواء على مستوى الدولة أو على الصعيد الشعبى؟ هل من الممكن الرهان على إمكانية نشوء أفق إيمانى رحب بعيدًا عن التوظيف الأيديولوجى؟
- ما تفضلت به يمثل حلمًا وأملًا. دون عودة الدين إلى جوهره، أى عدم وجود وساطة فى علاقة الفرد بربه، لا يمكن أن يحدث تغيير فعال.
لكسر الحيز الدائرى يجب أن تتحول هذه الشعوب إلى منتجة لا مستهلكة، فردية لا جماعية، قادرة على التفكير والتأمل أى التخلى عن مفاهيم التلقين البالية، ومن ثم تتمكن من التحكم بمصيرها ومستقبلها.
عندما قام الشعب المصرى بانتفاضته العظيمة فى عام ٢٠١١، تمكنت جماعة الإخوان من ركوب الموجة والنتائج نعرفها جميعًا. فى سوريا أيضًا كان للإخوان حضور طاغ. القوى الفاعلة فى هذه المجتمعات مثلت العقل الدائرى؛ فالماضى المتخيل هو ما رسم مسيرة الانتفاضتين المصرية والسورية.
فى تقديرى ليس هناك فى الأفق المنظور ما يشير إلى خروج هذه المجتمعات مما هى فيه، إنما من حقنا المطلق أن نحلم.
■ إن كانت المجتمعات العربية تعيش فى حالة تراجع بسبب السلطة الدينية فكيف تنظر إلى تصاعد اليمين المتطرف بالغرب، هل تتفق مع من يتوقع تغول العنف الدينى مستقبلًا جراء نبرة الإسلاموفوبيا المتصاعدة فى الخطاب الغربى؟
- لا علاقة لليمين المتطرف فى الغرب بالتخلف الإسلامى. اليمين المتطرف فى الغرب لا يدعو للعودة لماض متخيل بل أطروحاته قائمة على مفاهيم الحداثة والتطور التكنولوجى، لكنه عبر التاريخ ولا سيّما التاريخ المعاصر تسبب ممثلًا بالفاشية والنازية فى كوارث دفعت البشرية أثمانها.
بينما لا يوجد خطر على الهوية فى هذه البلدان أبدًا، إذ لن يُشكِّل المهاجرون كيانًا واحدًا يمكن أن يؤدى الى استبدال ثقافة بأخرى، نجد الإسلام غارقًا فى مفاهيم بالية عفا عليها الزمن، ولن يتمكن من دخول العالم المعاصر إذا لم يتخل عن أطروحاته البالية، ومنها «الإسلام فى خطر».
الإسلام ليس فى خطر بل سدنة معابده هم من لم يألوا جهدًا فى أن يتحول إلى دين حضارة ميتة كما فعل كهنة المعبد فى مصر والعراق القديم، فإصرارهم على مدوناتهم أدى إلى موت الدينين المصرى والعراقى القديم بفضل تلك الثقافات البالية التى ترفض التطور ومراجعة الذات الفاعلة.
■ فى ظل المتغيرات الإقليمية المستجدة.. ما تأثير تلك المتغيرات على الحالة الدينية بالمنطقة؟ هل تتوقع أن تزيد من حدة الاستقطابات الطائفية أو المبنية على أساس دينى بشكل عام؟
- المتغيرات فى العالم العربى بل الإسلامى ذات طابع سياسى ولا علاقة لها بجوهر المسألة التى أتينا على ذكرها فى سياق هذا الحديث. الشعوب فى هذه المنطقة من العالم مغلوبة على أمرها ولن تتمكن أن تقول كلمتها فيما يتم الإعداد له.
ولو تأملنا على ضوء الإحصاءات، هناك كثير من سكان إيران ابتعدوا كليًا عن الإسلام بل يمكننا أن نشير لهم بالإلحاد، وكذلك الأمر فى العراق ولا سيما من الشباب الشيعة. لقد ذاق الإيرانيون طعم الإسلام السياسى بنسخته الصفوية خلال فترة تجاوزت الأربعين عامًا. إيران تستند إلى الإسلام من أجل الهيمنة والتسيد، ولم تتوان عن تدمير العراق وسوريا ولبنان من أجل مصالحها.
موضوعيًا الإسلام هنا كما هو هناك، لا علاقة له بالمبادئ والأخلاق، الأيديولوجيا ككل الأيديولوجيات الشمولية لا علاقة لها بالنيات الحسنة والأخلاق الحميدة.
قناعتى أنه بعد أن يكنس التاريخ هذه الأيديولوجيا القاتلة فى إيران، ستدخل عالم الحداثة أى العالم المعاصر. فى العراق أيضًا سيكنس التاريخ هذه الطغمة الفاسقة والجاهلة. الطريق طويل بل طويل جدًا، وليس من حقنا أن نتفاءل بل أن نشير ودون وجل إلى الأمراض التى تعيق تقدم هذه الشعوب.
■ فى هذا السياق، كنت قد أصدرت كتابك الأحدث «استقراء ونقد الفكر الشيعى».. ما الدافع وراء عودتك إلى موضوع الإحباط الشيعى؟
- تناولت موضوع الإحباط الشيعى فى كتابى «نقد العقل الدائرى: الخضوع السنى والإحباط الشيعى». العودة إلى هذا الموضوع تمثل قراءة ونحتًا فى خلفيات ذلك الإحباط، فقد وجدت أن الإحباط كمفهوم وثقافة وأيديولوجيا يعبر أصدق تعبير عن الإحباط الفارسى المتمثل بسقوط الدولة الساسانية.
ليست هناك نصوص بريئة فى عالم الأيديولوجيا؛ الخلفيات التى كتبت عبرها أهم كتب الشيعة الاثنى عشرية لم تتمكن من إخفاء حقيقة هذا الإحباط وارتباطه بهزيمة وسقوط الإمبراطورية الساسانية. ذلك الإحباط أدى إلى قيام ثقافة أيديولوجية تحتقر العرب.
■ هل ترى طرح استبدال التكنولوجيا بالدين إلى درجة اعتناقها دينًا مُمكنًا فى العالم العربى؟
- لا يمكن بل من المستحيل أن يحل التطور التكنولوجى محل الدين أو يصبح دينًا كما ورد فى سؤالك، فالدين يُعبّر عن حاجة وجودية لا يمكن أن تلغى أو أن يحل محله ثقافة أخرى.
على سبيل المثال، الدين لم ينته فى الغرب بل أخذ طابعًا آخر، إذ تمكنت الكنيسة الكاثوليكية «البروتستانية كانت أكثر تطورًا منها» باعتبارها ممثلة لدين الأكثرية فى الغرب من التأقلم وصارت دارونية بامتياز، أى أخذت بمبدأ التطور وتمكنت من دخول العالم المعاصر.
ما يقال عن فراغ الكنائس فى الغرب صحيح لكن السبب هو أن الإيمان أصبح فرديًا، إضافة إلى أن الحيز الأفقى المعاصر أوجد حلولًا لعدد كبير من المشاكل التى كانت الكنيسة تتكفل بإيجاد حلول لها.
هذا يؤكد أنه ليست هناك مشكلة مع الدين متى ما ساد العقل وتراجعت الأيديولوجيات المظلمة.
■ كيف تنظر إذن إلى مستقبل الطرح العلمانى فى الخطاب الثقافى العربى ودوره فى مواجهة التطرف الدينى؟
- هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق. لن يشهد الطرح العلمانى بطابعه العقلانى حضورًا فعّالًا دون توافر آليات تسمح له بالوقوف على قدميه. هذه الآليات هى: تعليم قائم على التفكير لا التلقين، ومجتمع منتج لا مستهلك فحسب، وشخصنة الدين، وتجفيف مستنقع الطفولية عبر قطع الحبل السرى بين السلطتين السياسية والدينية.