«كيرة والجن».. الخلطة المصرية للبطولة
يمكن أن نقول إن فيلم كيرة والجن هو فيلم من بطولة مخرجه مروان حامد، فبالرغم من وجود عدد كبير من نجوم التمثيل فى الوطن العربى، فإن الفيلم فى مجمله من بطولة مروان، الذى استطاع أن يتفادى فخ السذاجة، الذى يمكن أن يسقط فيه بعض الأفلام التى تحمل طابعًا ملحميًا.
فبالرغم من بساطة الفيلم وخلوه من التعقيد، فإن كاميرا مروان حامد كانت تعمق كل مشهد، وتضيف إليه لغة خاصة وروحًا مختلفة، تكوين الصورة عند مروان مبهر كعادته فى كل الأفلام، وفى هذا الفيلم عن طريق لغة الكاميرا يستطيع المشاهد أن يصل إلى ما خلف وما وراء سطح المشهد.
وسيتضح ذلك أثناء حديثنا عن الفيلم، الذى يسرد وقائع تاريخية للشارع والحياة فى مصر لمناهضة الاستعمار ومواجهة الاحتلال البريطانى، فى شكل المقاومة الشعبية التى تأسست أسفل مقهى عتيق من مقاهى وسط البلد.
يعيد الفيلم تأويل مفهوم المواطنة، والوطن، ويبرز دور المرأة، فأنت ترى عناصر مقاومة الاحتلال هى خليط بين جميع فئات الشعب المصرى، المسلم والمسيحى والرجل والمرأة، أى الجميع بمختلف عقائدهم وأفكارهم حتى البيئة التى جاءوا منها.
يتمثل دور المرأة فى الشخصية التى أدتها الفنانة هند صبرى ببراعة شديدة، دور دولت فهمى، الفتاة القبطية الصعيدية التى تشترك فى الثورة، تشترك فى تغيير وطنها، تشترك فى المقاومة، تقف جنبًا إلى جنب بجوار الرجل من أجل قضية واحدة، وحلم واحد، فى الفيلم نرى اشتراك دولت فى الثورة، هنا تقترب الكاميرا من وجه دولت، التى تتحرر من القيود، فتخلع النقاب لتؤكد للجميع أن المرأة ليست عورة يتم حجبها، بل يمكن أن تكون المرأة كما يقول المثل بمئة رجل، وربما أكثر.
ولكن دولت تنتهى حياتها على يد الجهل، على يد العادات والتقاليد المجتمعية البالية، على يد أهلها الذين اعتبروا أنها فقدت الشرف، المتمثل لهم فى صورة علاقة جنسية غير رسمية، قتلوها دون أن يتأكدوا من ذلك، بالرغم من أنها بريئة، وضحت بسمعتها فى سبيل وطنها.
فى مشهد قتل دولت على يد الجهل تتحرك كاميرا مروان ببراعة لتجعل القاتل يسدد ضرباته لنا نحن المشاهدين، وكأن مروان يريد أن يقول لنا إن الجهل المتمثل فى صورة العادات والتقاليد المترهلة سيكون سببًا فى قتلنا.
هذه القصة، أى حكاية دولت فهمى هى حكاية حقيقية، حدثت بالفعل بكل تفاصيلها لتلك السيدة العظيمة، ربما هذا جانب آخر من جوانب التميز فى الفيلم الذى يخلط بين الواقعية والخيال، بين ما هو واقعى وبين ما هو خيالى، يأتى الفيلم بنماذج عظيمة وفريدة فى تاريخنا؛ ليعيد تقديمها مرة أخرى إلى جيل جديد بحاجة لمعرفة قيمة وطنه ومعرفة كل من ضحى فى سبيل الوطن ومعانى الحرية.
فدولت فهمى وغيرها، مثل هدى شعراوى ونبوية موسى، كلهن أفنين حياتهن بمنتهى الإخلاص من أجل الدفاع عن المرأة وقضاياها، الذى هو بدوره دفاع عن الوطن وعن الحرية وعن الكرامة وعن التقدم والعلم فى مواجهة قوى الظلام الرجعية.
فالفيلم يتخذ من قضية الاحتلال البريطانى قاعدة للحديث عن تاريخ الاستعمار، الذى تعرضت له مصر طوال تاريخها، أى أن الفيلم يناقش أيضًا مفهوم الاستعمار، وتحديدًا بداية الاحتلال الإنجليزى قبل وبعد الثورة العرابية، فجاءت الإشارة إلى تلك الثورة العظيمة التى قادها الزعيم عرابى عن طريق الشخصية التى قام بها الفنان أحمد كمال.
ففى مشهد واحد قد يبدو بسيطًا استطاع الممثل القدير أحمد كمال تجسيد شخصية الجندى المصرى الذى حاول الدفاع عن حقوق وطنه أثناء الثورة العرابية، والذى أخذ يستعيد تلك الذكريات الممزوجة بالفخر، مما يحدث فى الشارع المصرى، آنذاك، حيث ثورة ١٩١٩، وكأن كرامته المهدرة فى ثورة عرابى قد ردت إليه فى ١٩١٩، فى هذا المشهد استطاع الممثل وبالطبع كاميرا مروان، عن طريق نظرات العين ولغة الجسد وتوزيع الإضاءة ودخول الموسيقى، التعبير عن شكل وإحساس وشعور الجندى المصرى الوطنى فى سنوات الاحتلال.
تأتى نقطة هامة، والتى بدأت بها حديثى، حيث الفخ الذى كان من الممكن أن يسقط فيه الفيلم، لولا تمكن ووعى المخرج، حيث وجود عدد من المشاهد التى تبدو مقحمة، والتى تبدو وكأن لا مبرر دراميًا لها، مثل مشهد العراك الذى قام بين كيرة والجن بعد الموقف الذى جعلهما يتعرفان على بعضهما البعض فى المركب، كان الموقف غريبًا جعلنى أتساءل لماذا يتعاركان الآن بعد أن تحقق هدفهما؟ بالإضافة إلى بعض المشاهد التى كان الحوار فيها شديد البساطة، لكن هذا الحوار البسيط شعرت أنه قد يكون مقصودًا من صناع العمل، الذين أرادوا من خلال عملهم الفنى أن يقدموا صورًا لنماذج مصرية إلى الجيل الجديد الذى لا يعرف هؤلاء.
فمن يشاهد الفيلم، تحديدًا لو كان شابًا أو مراهقًا لم يقرأ بشكل كبير فى سيرة الزعماء المصريين أو فى تاريخ الثورات المصرية، ممكن أن يكون الفيلم بمثابة دافع له للبحث فى التاريخ المصرى العامر بالأحداث، فالمشاهد يستطيع أن يتعرف على رؤية مغايرة لشخصيات تاريخية، سواء فى الشخصيات التى كانت تشكل المقاومة أو مثل الزعيمين سعد زغلول وجمال عبدالناصر.
وكاميرا مروان حامد استطاعت إخراج مشاهد بسيطة الحوار بصورة شديدة العمق تتجاوز حدود النص المنطوق، من اللحظة الأولى وافتتاحية الفيلم على مشهد الفلاحين المصريين، الذين يضربون ويذلون ويهانون على أرض وطنهم، وصولًا إلى المشهد الأخير، حيث خروج آخر جندى بريطانى، ومشاهد الاحتفال الجماهيرى بقيادة الزعيم عبدالناصر.
فى المجمل هذا فيلم جيد استطاع بفضل مخرجه تفادى فخ السطحية، الذى يضرب بعض أو أغلب الأفلام التى تتحدث عن أحداث ملحمية أو وطنية أو تاريخية، والتى كان لا يمكن للكاتب أحمد مراد أن يتجنبها وأصبحت بمثابة ثغرات فى السيناريو، ولكن المشاهد سيلتحم ويتوحد مع الشاشة، وسيشعر بنفسه مشاركًا فى الأحداث ومتأثرًا بها، وأن هناك قضية مهموم بها، وأسئلة تطرح عليه باستمرار، ونقطة أخيرة ساهمت موسيقى العظيم هشام نزيه فى توصيل كل المعانى والأحاسيس التى يريد صانع العمل توصيلها إلى المتلقى فى كل مشهد، ببساطة وعمق، جديرين بفيلم يتحدث عن وطن يحاول أن يسترد كرامته وينعم بالحرية.