«شاى باللبن فى الزمالك».. اعتصام المثقفين وإرهاب الأجانب فى ضفيرة روائية
للكاتب المصرى فتحى سليمان تجربة خاصة فى كتابة «رواية المكان» التى تعنى بتاريخ الأماكن وجلاء خصوصياتها الثقافية والاجتماعية وطبائع الحياة فيها، فكانت له روايتان: «على محطة فاتن حمامة»، عن حى مصر الجديدة العريق، و«بولاق أبوالعلا»، عن الحى الشعبى الشهير، ثم تجىء روايته الثالثة، «شاى باللبن فى الزمالك»، لتتناول تاريخ الحى الهادئ الذى يُعرف بخصوصيته، بأنه سكن الطبقة الأرستقراطية والنبلاء. وأحسب أن ميل الكاتب إلى البساطة قد دفعه إلى اختيار عنوان يتسم بطابع عفوى وبروح شعبى، ربَّما كانت الرواية تستحق عنوانًا آخر، أفضل وأكثر تعبيرًا عن تمثيلها محطات تاريخية مهمة فى تاريخ الحى العريق ومصر أيضًا.
يعتمد الكاتب فى بنائه الرواية على المراوحة فى الزمن، فلا يعتمد خطًا تصاعديًّا فى سرده الأحداث، لكنَّه يتنقل بأحداث روايته فى أرجاء حى الزمالك عبر مراحل تاريخية متعددة بامتداد تاريخ الحى العريق على مدى ما يناهز قرنًا من الزمان وكذلك تاريخ مصر، وإن كان يعلن عبر صوت سارده أن فعل السرد يأتى فى أيام ما قبل ثورة الثلاثين من يونيو وقت أن كانت مصر تئن بعد أن جثمت جماعة الإخوان المسلمين على أنفاسها بتوليها حكم البلاد لمدة عام كان حزينًا وحافلًا بما غرسته فى جسد الوطن من أشواك الخوف، إضافة إلى الفشل السياسى والاقتصادى الذريع فى إدارة شئون البلاد:
«الليالى يتيمة الريح تصيب النهر بالخرس...
ترقد جثة ترعب أعين الأطفال، النهر الصامت ليس ودودًا..
الصمت عتمة.. العتمة ليست ودودة.
أطباق الدش المنتشرة فوق السطوح تلتقط ما يدور فى الفضاء، وتمدُّ ألسنتها البيضاء الهزيلة نحو آذان الجالسين أمام الشاشات.
صمت بارد فى عتمة الليل لكنَّه يزوم متأففًا من حرارة الجو.
يونيو الحزين دومًا ينفث أنفاسه زهقًا من الذكرى السنوية الأولى لحكم الإخوان.
يا إلهى.. عام ثقيل مرَّ بلا ابتسام...!!
هل تخيل والدى أن هؤلاء الخونة سيجلسون على عرش مصر!!!
هل خطر على بال الأمين عبدالله أن بيت الثعابين سيضع بيض ثعابينه فى قصر الاتحادية!!
نظرات المصريين الزائغة كانت تستنكر هذا الوضع!!
أمام مبنى الوزارة كانت البراكين تتجمع حُبلى بحمم الرفض والتمرد...
وهنا على السطوح الذى شهد أيامنا الخضراء.. تطل من السماء نجوم عادت تلمع من جديد، هناك على بعد خطوات... أيام تبدو جميلة».
ينقل السرد الذى يتسم بغنائية طاغية تذبذبات الوجدان العام ونبض الشخصية الجمعية المصرية فى مرحلة دقيقة وخطيرة من تاريخ الوطن، وتحديدًا يونيو ٢٠١٣، والوطن يلفظ جماعة الإخوان بعد أن كتمت أنفاسه وحاولت أن تطفئ شموس الأمة وتعيدها إلى الوراء وتدخلها فى كهوف مظلمة من الردة التاريخية والحضارية. ويستعيد السرد ذكرى أحداث ثورة الثلاثين من يونيو واعتصام المثقفين فى وزارة الثقافة فى الزمالك. كما يتبدى أنَّ ثمة نفسًا شعريًّا فى لغة السرد فى الوصف الذى يعكس الحالة النفسية للذات الرائية، صوت السارد، على الأشياء فى تمثله لها، كما تمثل «أطباق الدش»: «أطباق الدش المنتشرة فوق السطوح تلتقط ما يدور فى الفضاء، وتمدُّ ألسنتها البيضاء الهزيلة نحو آذان الجالسين أمام الشاشات» فى استعارة تشخيصية تضفى بُعدًا إنسانيًّا للأشياء التى تحسُّ الذوات بتشاركها معهم فى همومهم.
يراوح صوت السارد، بطل الحكاية، فى استعادة الأحداث المهمة فى تاريخ حى الزمالك، التى كان من أشهرها، ضبط الأمين، «الكونستابل»، عبدالله، شابين يهوديين ينتميان إلى منظمة شتيرن الصهيونية قتلا الوزير الإنجليزى لشئون الشرق الأوسط، اللورد موين، فى حى الزمالك بعد مطاردته لهما:
سبتمبر ١٩٥٢
«ألحق والدى على قوة المباحث العامة.. يتبع إداريًّا قسم الجبلاية.. ترك الزى الميرى وأصبح يرتدى جلبابًا وفوقه معطف سيخطو الآن داخل حى الزمالك، وسيرى أين يذهب الذين كانوا يمرون عليه كل صباح ومساء...
ما هذا الهدوء!!! لا عجب أن «الأمين» سمع صوت الطلقات من مسافة بعيدة!! البوابون يتحدثون همسًا، وسعاة البريد يضعون الرسائل فى صناديق خشبية ويرحلون فى صمت جميل. يبدو أن معركته ستكون مع العصافير.. فهى الوحيدة التى تسبب ضجيجًا!! ظل يجوب فى الشوارع بحثًا عن شىء يفعله.. عن جريمة، وليكن كلبًا عقر طفلًا أو سيارة صدمت كلبًا!!
هذا الهدوء ورائحة الياسمين والفل الهندى وزقزقة العصافير لا تخلق مجرمًا ولا تلقى بالرجال إلى مستنقع الإدمان، على الجانب الآخر من النهر يتقاسمون الأفيون رغيف العيش مع الفقراء!! الضجيج يجعل البشر يتعاركون على أتفه الأسباب.. شيخ الجامع هنا لا يصرخ مذكرًا المصلين بوجود الله».
تجلى الرؤية السردية خصوصية حى الزمالك وتربط بين طبيعة الحياة فيه وطبائع البشر الذين يسكنونه، فهدوء الطبيعة ينسحب على اتسام أهل المكان بالهدوء ورهافة الحس. كما تكشف المفارقة أيضًا عن التفاوتات الاجتماعية الرهيبة بين حى الزمالك وحى بولاق رغم القرب المكانى بينهما، كذلك يكشف عن العلاقة بين نوعية الخطاب الدينى المقدَّم من الشيوخ والمكان وخصائصه الاجتماعية والثقافية: «شيخ الجامع هنا لا يصرخ مذكرًا المصلين بوجود الله»، فى إشارة إلى نسبية هذا الخطاب الدينى، بغير ما يريد المتشددون من جعله خطابًا مطلقًا.