«مستقبل الأديان 2».. الباحث السورى نجيب جورج عوض: الإسلام السياسى ارتكب الكوارث.. وما زال ماضيًا فى شيطنة نفسه بنفسه
يولى الباحث السورى نجيب جورج عوض، اهتمامًا خاصًا فى دراساته وكتبه بالدراسات اللاهوتية وتاريخ الفكر الدينى الإسلامى المسيحى فى العصر الإسلامى المبكر والعصر الحديث، وفى هذا النطاق كان له عدد من الكتابات المهمة مثل «الله والإنسان والشر.. دراسات لاهوتية- وجودية»، و«ما بعد الحداثة ومستقبل الخطاب الدينى فى الغرب»، و«أحفورات الفهم.. تاريخانيات المعنى»، فضلًا عن دراسات وكتب نُشرت باللغة الإنجليزية، وقارب من خلالها قضايا دينية معاصرة.
فى هذا الحوار، نناقش التحديات التى تواجه الخطاب الدينى بالعالمين العربى والغربى عبر رصد المتغيرات الحاكمة لكليهما، متطرقين للحديث عن الأثر الذى أحدثته تجربة الإسلام السياسى فى توجيه مسارات مقاربة الدين، والآفاق المستقبلية المحتملة لظاهرة العنف المبنى على أسس دينية فى ضوء المعطيات الراهنة.
■ فى كتابك «ما بعد الحداثة ومستقبل الخطاب الدينى فى الغرب» قلت إن التحدى أمام الخطاب الدينى فى كل الأديان أن يسمح بالتداخل بين الخطاب الدينى وحقول المعرفة ما بعد الحداثوية».. فى هذا الصدد، ما المتغيرات البارزة بالعالم الغربى فى النظر إلى الدين والتعامل معه فى فترة ما بعد الحداثة الحالية عن تلك التى سادت عصر الحداثة؟
- واحدة من التبدلات الجوهرية فى الفكر الغربى حيال الدين بين فترتى الحداثة وما بعد الحداثة هى الاعتراف ما بعد الحداثوى بأن الدين لم يغادر يومًا الساحة العامة وأنه يشهد عودة فاعلة للظهور والتأثير على السياق السوسيولوجى والثقافى والمدنى فى المجتمعات الغربية التى مالت لتبنى المقاربات الإلحادية واللاأدرية واللادينية فى عصر الأنوار ومرحلة الحداثة. كان هناك فلاسفة كبار أثناء عصر الحداثة أعلنوا عن هزيمة الدين وخروجه من فضاء المعرفة العقلية والعلمية والإنسانية ونكوصه إلى فضاء الأسطورى والخرافى والشعوريات والسيكولوجيات الخاصة.
فى منتصف القرن العشرين، زمن ولادة الفكر ما بعد الحداثوى، تفكك هذا الادعاء وفُنِّدت افتراضاته. منذ بدايات القرن الحادى والعشرين بتنا نسمع فلاسفة غربيين كبارًا ومهمين، مثل تشارلز تايلور ويورجن هابرماس «أبوالخطاب القائل بهزيمة الدين فى بداياته الفكرية» يعترفون بأن الدين لم يغادر الساحة العامة الغربية والعلمانية أصلًا وأنه يعود إليها بقوة. هذا برأيى واحد من أهم المتغيرات المتعلقة بالدين فيما بين الحداثة وما بعد الحداثة؛ عودة الدين إلى حَيِّز التفكير المعرفى والأكاديمى والبحثى والعقلانى بعد أن كان قد تعرض للنفى والتهجير منها فى السابق.
■ إلى أى مدى تأثرت الحالة الدينية بالعالم العربى بهذا التغير ما بعد الحداثى الكائن فى الغرب؟
- علينا برأيى أن ننتبه إلى أن المراحل والمحطات الفكرية والمعرفية والثقافية التى يعبرها الفضاء الإنسانى الغربى والعالمى قد لا تتحقق كما هى، أو قد لا تتحقق أبدًا، فى فضاء السيرورة التاريخية للفكر والثقافة والمعرفة فى العالم العربى.
لا أعتقد أن هناك عصرًا ما بعد حداثة عربى، إذ إن الفضاء المعرفى العربى العام لم يلج حتى عصر حداثة وتنوير. ما لدينا برأيى هو أفراد من الباحثين والمثقفين وربما العامة المتأثرين شخصيًا وفرديًا بتيارات فكرية إما حداثوية أو ما بعد حداثوية تعرضوا لها بسبب الدراسة أو الاجتهاد الخاص أو التعرض لخبرة الاحتكاك بالفضاءات المعرفية فى بلدان الغرب، أى خارج العالم العربى.
من هنا أقول إنه لا يمكننا مقاربة ودراسة وتشريح الاختلافات فى مقاربة الدين والتعامل معه تاريخيًا وزمانيًا فى القرنين العشرين والحادى والعشرين فى العالم العربى، وهى موجودة وحقيقية، من خلال وضعها فى إطار سيرورة «حداثة، ما بعد حداثة»، فهذه السيرورة غير موجودة عندنا جمعيًا أو مجتمعيًا أو سياقيًا أصلًا.
■ ما الاختلافات إذن فى مقاربة الدين بالعالم العربى فى هذا القرن مقارنة بالقرن العشرين؟
- واحد من تلك الاختلافات المهمة برأيى هو أننا بدأنا فى القرن الحادى والعشرين نشهد بداية ظهور مقاربات للدين تمضى أبعد من مقاربته التقليدية كحقيقة مطلقة جامدة جمعية مرجعية خارج الزمان وفوق التاريخ وأعلى من الفهم والتفكير، والتى كانت سائدة حتى نهاية الربع الأخير من القرن العشرين فى العالم العربى. اليوم لدينا أجيال وأصوات معرفية وفكرية وثقافية عربية واعدة ومهمة تتعامل مع الدين كخبرة واختبار وممارسة، وليس كحقيقة، تُقارب الدين من خلال نظرتها للمتدينين وليس للدوغما أو العقيدة الدينية؛ أى أنها تعامل الدين بصفته «تديُّـنًا» و«مُتدينين»، وهذا يعنى حتمًا أن الدين بات يعامل كظاهرة اختبارية تاريخية وزمانية وديناميكية متبدلة ومتأثرة بالسياقات والافتراضات البشرية الذاتية.
ألمس محاولة لتحرير فكرة الدين فى عقولنا اليوم فى العالم العربى من «أسطرة» الفكرة بحد ذاتها وتصنيمها من خلال إعادتها إلى طبيعتها المفاهيمية واللغوية الأصيلة؛ فكرة حيَّـة، تنبض بالزمان والمكان والعلائقية والتفاعلية والديناميكية.
■ ما رؤيتك لإمكانية تحقق ذلك التداخل بين الخطاب الدينى وحقول المعرفة الأخرى بالعالم العربى مستقبلًا، لا سيّما مع كونه مطلبًا ملحًا فى خطابات تجديد الفكر الدينى؟
-كما ذكرت فى كتابى «ما بعد الحداثة ومستقبل الخطاب الدينى فى الغرب»، كى يتم هذا التداخل ينبغى على الدين أن يتجنب علاقتين خاطئتين مع حقول المعرفة العلمية الأخرى، الأولى علاقة التبعية والإرضاء. والثانية علاقة الهيمنة والوصائية.
فى الحالة الأولى، ينحنى الفكر الدينى خضوعيًا لفكر العلوم الأخرى ويسعى لإرضائه وإثبات جدارته العقلية وأحقيته الفكرية وقيمته العلمية أمام الأخير بأن يلعب لعبة التفكير والتحليل والتفكيك والتركيب وفق شروط وقواعد يضعها الفكر العلمى لحقول المعرفة الأخرى. أما فى الحالة الثانية، فيسعى الفكر الدينى لإعادة السيطرة على فكر العلوم الأخرى والوصاية عليه وجعل تلك العلوم تطور خطابات وآليات تفكير وتحليل ومنهجيات دراسة ترضى الخطاب الدينى وتردد ما يقول له هذا الأخير وتدعم وتلعب دور المثبت لخلاصات وقناعات وادعاءات الخطاب المذكور.
فى الحالة الأولى، يخنع الدين لهيمنة الفكر العلمى، أما فى الحالة الثانية فيتلاعب الدين بالفكر العلمى ويستعبده ويلوى عنقه.
■ هل تقع الخطابات الدينية من هذا المنظور فى العالم العربى فى شرك المشكلتين المذكورتين؟
- حين أراقب وأتابع إرهاصات التفاعل بين الفكر الدينى وأفكار العلوم الأخرى فى العالم العربى، أجد هاتين العلاقتين الخاطئتين والإشكاليتين منتشرتين ومهيمنتين على المشهد فى بلدان عربية عديدة من المشرق وصولًا إلى المغرب. وأحيانًا ترى أتباعًا لكلتا العلاقتين موجودين فى نفس البلد ويشغلون الساحة المعرفية والثقافية والمجتمع برمته فى حروبهما ونزاعاتهما. المشكلة برأيى أن كلتا العلاقتين خاطئة وغير متوازنة ويجب تجاوزها. وهذا أمر لم يصل العالم العربى إلى فعله بعد برأيى. المشكلة البنيوية فى كلا نمطى العلاقتين أنهما تعكسان منطق وذهنية وآلية وعى ديالكتيكية هيغلية خاطئة بطبيعتها لأنها تبنى معادلة تلاقى بين «نظرية» و«نظرية معاكسة».
■ فى ظل تصاعد اليمين المتطرف بالغرب وما ينتج عن ذلك من تصاعد الإسلاموفوبيا.. هل يتخذ الخطاب الدينى فى الغرب مستقبلًا نبرة أكثر جهورية للاستقطاب متخذًا من جديد الاعتقادات الدينية ذريعة لتحقيق مصالح سياسية؟
- نشرت منذ عدة أعوام دراسة بحثية باللغة الإنجليزية فى مجلة العالم الإسلامى الأكاديمية المُحكَّمَة ناقشت فيها أن ما يواجهه الغرب اليوم لا يقتصر على الإسلاموفوبيا، بل إنه يدور برأيى حول مسألة أسميها فى دراستى «الدينوفوبيا»، أى الرهاب من عودة الدين عمومًا، أى دين كان بما فيه المسيحية، إلى الساحات العامة فى العالم الغربى.
أعتقد أن تصاعد اليمين فى العالم الغربى اليوم سببه برأيى هو عودة الدين إلى الساحة العامة، فبسبب عودة التديُّن للعب أدوار مختلفة متنوعة، من قبل المسلمين وسواهم، فى سياقات العيش والشأن العام، استعاد اليمين المتطرف حضوره ودوره.
هناك لعب على وتر التدين «ولا أقول الإيمان الدينى، وإنما الممارسة والمخيال الشعبيان عن الانتماء الدينى» فى النشاط السياسى فى العالم الغربى، بل العالم برمته، وحتمًا فى العالم العربى، ومن كل التيارات السياسية والفكرية التقليدية، سواء انتمت لليمين أو لليسار أو حتى للوسط. اليوم، بات خطاب السلوك التدينى هو أفضل أدوات الموجة الشعبوية التى تهيمن على ساحة الوجود البشرى.
ولهذا، نعم، ستستخدم المعتقدات الدينية بشكل أكبر وأكثر تدميرًا برأيى فى المستقبل القريب جدًا، ولكننى أقول إن ما سيستخدم ليس «خطاب الدين الإيمانى»، بل «خطابات التديُّن الشعبى»، فهى ما يتداوله الناس فى حياتهم اليوم، وليس الخطابات الإيمانية المؤسِّـسَة.
■ وهل برأيك سيسهم هذا الوضع فى تغول ظاهرة العنف الدينى وتعاظم الإرهاب بالمنطقة العربية والعالم فى المستقبل القريب؟
-هناك أصلًا ومن الآن تغوُّلٌ منفلت العقال فى ظاهرة العنف التديُّنى «وليس الدينى» على امتداد الكرة الأرضية. وهذا التغول يأخذ مظاهر وأنماطًا عدة؛ منها العنفى الجسدى الدموى، ومنها اللفظى التعبيرى واللغوى، ومنها العلاقاتى والسوسيولوجى السلوكى، ومنها الفكرى التخيلى الافتراضى.
نحن نسير، كما قال مارتن هايدغر مرة وأعاد قوله فوكو، نحو نهايات أو آخريات نهلستية بلا انتهاء، بلا نهاية. ولكن، التاريخ البشرى يعلمنا أن الكائن الواعى «الهوموسابيان»، أى جنسنا، يخوض سيرورة تطوره الطبيعى والفكرى متقلبًا كالبندول دائمًا ومتطاوحًا من نهاية راديكالية نحو النهاية الراديكالية المُضادة. الجنس البشرى لا يعرف الوسطية بطبيعته.
■ فى ظل تفاقم أزمة العنف المبنى على أسس دينية، يثار الحديث عن دين إبراهيمى يربأ الصدع بين الأديان ويؤسس لتعايش بين الأديان.. فى ضوء الحالة الدينية بالمنطقة، هل يمكننا تجاهل اعتبارات مثل أهداف السياسة الأمريكية والمشروع الصهيونى بمنطقة الشرق الأوسط والركون لهذا التصور؟
-أنا باحث أكاديمى وقارئ معرفى وهرمنيوتيكى لمعطيات الواقع المعيش. وأمثالى لا ينطلقون من نظريات مؤامرة ومحاولة البحث عن مخططات سرية وأجندات مخفية تعدها أيد عميلة وسياسات مُعدَّة مسبقًا. لا أقول هنا إن العالم وردى وليست فيه مؤامرات وأننا نحيا فى مدينة أفلاطون أو الفارابى الفاضلة. أقول فقط إن الباحث لا ينطلق من «نظرية مؤامرة» ولا يبحث عنها بعينها. أقارب الحديث عن الأديان «وليس دين» الإبراهيمية كاجتهاد معاصر همه الأساسى التقارب والتطالع والتلاقح والحوار، دون إنكار التنوع والتفارق والتمايز والتعدد، هذا هو لُبُّ التوجه الإبراهيمى، وهذه هى الروحية الكامنة خلف طروحاته ومقارباته. هل يتم أحيانًا استخدام هذا التوجه وتوظيفه فى خدمة أجندات وأغراض مخفية وخاصة، سياسية أو غير سياسية؟ نعم، هذا ممكن جدًا. ولكن لا يجب على الاحتمال الأخير أن يمنعنا من الخوض فى مغامرة التفاعل والتواصل والتحاور والتلاقح مع الآخر المغاير لمجرد أن هناك احتمالًا لخطر ما يكمن فى أحد المنعطفات.
■ هل تتوقع أن تعيد المآلات الكارثية للإسلام السياسى رسم تصور مغاير للدين بشكل عام فى المستقبل؟
- هذا سؤال كبير جدًا ومقاربته كما يطرح هنا تقارب عملية التنبؤ والتحذَّر حول المستقبل، والباحث الأكاديمى لا يتنبأ ولا يتحذر عما سيحدث فى المستقبل، بل يحلِّـل ويفكك ويعيد تفسير ما حدثَ فى الماضى وما يحدث فى الحاضر.
نعم، الماضى القريب والحاضر يقولان لنا بمعطيات كثيرة موضوعية وجديَّـة جدًا إن الإسلام السياسى ارتكب الكوارث وما زال فى العالمين العربى والإسلامى وهو ماض فى شيطنة نفسه بنفسه وتشويه سمعته فى العالم غير الإسلامى وغير العربى وبسرعة كبيرة. لهذا أسبابه المعقدة والمتشعبة والمركبة التى لا مجال لذكرها وتفنيدها هنا. ولكن، هل سيؤدى هذا الانحدار والفشل الكارثيين إلى تغيير صورة الدين ومقارباته؟ علينا أن ننتظر ونرى ومن ثم نقيِّم ونُحلِّل ما يحدث. أعتقد أننا حاليًا فى معركة مرور الإسلام السياسى فى حالة إنكار للكارثة وحالة إما دفاع عن النفس أو حالة تقديم الذات بصورة الضحية وتسويق خطاب مظلومية. هذا يعنى أنه لم يبدأ بعد مرحلة مواجهة الذات وتسمية المرض ومن ثم محاولة الشفاء منه. أما عن العالم المراقب لهذا، فعنده مقاربات مختلفة ومتنوعة لما يراقبه ويعاينه، بعضها ينحو نحو نبذ الدين وتجريمه بحد ذاته. وبعضها الآخر ينحو نحو تبرئة الدين وتبريره وتنزيهه عما اقترفه الإسلام السياسى. وبعضها يحاول أن يستخدم الدين كدواء للمرض الذى يعانى منه الإسلام السياسى ويقترح أن الدين هو الحل وليس المشكلة. لا أعتقد أن أيًا من تلك المواقف الثلاثة تدين له الغلبة والهيمنة على الموقفين الآخرين فى العالم العربى. أعتقد أنها متساوية الحضور والحظوظ حاليًا، وما مرور أحدها بحالة هيمنة وتفوق على الخيارين الآخرين سوى مرحلة مؤقتة وظرفية ترتبط بالسياق الذى توجد فيه. برأيى أنه من الأمر المفيد والصحى تواجد أكثر من خيار فى الساحة وأنها تتنافس وتسعى للفوز على الخيارات الأخرى، شرط ألا يتحول التنافس إلى نزاع وتناحر وألا تصبح أعداء لبعضها البعض فمن سيدفع ثمن الصدام والعداوة هم الناس والبشر، لا أحد آخر.
■ فى هذه الأوضاع المرتبكة، إلى أى مدى يمكننا القول إن العلمانيين العرب قد أخفقوا فى تأسيس خطاب عقلانى فاعل بالمجتمعات العربية؟
-أمرٌ حسنٌ وصحيحُ سياقيًا وعلميًا، برأيى، أن السؤال يتحدث عن «علمانيين عرب» وليس عن «علمانية عربية». أعتقد أن العالم العربى لم يشهد بعد ولادة أو تأسيس تراكمى معرفى شمولى واسع لحالة أو لتيار علمانى قائم بذاته فى العالم العربى. عندنا فى الواقع تجارب علمانية قام بها أفراد أو جماعات صغيرة وقد فشلوا جميعًا برأيى.
أحد أسباب فشل العلمانية فى العالم العربى هو أن أتباعها اختزلوا خاطئين جدًا العلمانية بالموقف من الدين، فباتت العلمانية تعنى «الإلحاد». ولكن ثقاة الفلاسفة والمنظرين عن العلمانية فى تاريخ الفكر البشرى يقولون لنا إن الإلحاد لا يقترن بالعلمانية وإن العلمانية لا تعنى الإلحاد: هاتان مدرستان فكريتان متمايزتان ومختلفتان، حتى وإن تقاطعتا فى بعض التجارب التاريخية فى بعض دول الغرب.
السبب الآخر الذى أفشل محاولات العلمانيين فى العالم العربى برأيى المتواضع هو نخبوية أتباع الفكر العلمانى فى العالم العربى وإعطاؤهم انطباعًا لعامة الناس أن العلمانية اختصاص للنخبة المثقفة والمفكرة والعالية التعليم فقط، أى أن العلمانيين فشلوا فى التأصيل لفكر ومخيال عام فى الشارع وحوَّلوا العلمانية إلى «طبقة» أو «حيثية» أو «نظرية».
وطبعًا، سبب آخر لفشل خلق علمانية فى العالم العربى اقترانها بأحزاب وكيانات قوموية وعروبية، أى اقترانها بفكرة «الأيديولوجيا» ومنطق «الولاء الأيديولوجى»، ومع فشل تلك الأحزاب الذريع وزيف علمانياتها وتشوهها البنيوى، اقترن هذا الفشل فى الوعى العام الشعبى بفشل للعلمانية أيضًا. أما السبب الأخير فهو شيطنة فكرة العلمانية من قبِل الإسلام السياسى والمؤسسات الدينية المتديِّنة المحافظة. قام الإسلام السياسى وما زال بتقديم العلمانية كبعبع وشيطان مستطير يتربص بالمجتمعات ويسعى لتدميرها وتشويهها وسلخها عن تراثاتها وقيمها ناهيك عن إيمانها. ولكن، هذا التصور هو «مخيال للعلمانية» أو «صورة مصطنعة للعلمانية» وليس العلمانية التاريخية والفكرية التى نعرفها فى تاريخ تطورها.
برأيك.. هل يمكن أن تحتضر فكرة الإيمان بإله عقب التحولات العاصفة بعد الثورات والعنف الذى تفشى بضراوة تحت ستار الدين؟
أعتقد أن ما نحتاجه هو إعادة التفكير وتفكيك وتغيير تفاسيرنا ومفاهيمنا ومقارباتنا لفكرة «الألوهة» بحد ذاتها. ليست المسألة بحثًا عن آلهة جديدة تحل محل القديمة، بل العمل على تطوير وتغيير آليات وعينا وتفكيرنا بالألوهة بحد ذاتها. فى النهاية، العنف والثورات والتطرف لم يقترفها لا الله ولا النص الدينى، بل من يعبدون الله ومن يقرأون النص الدينى. فى كتابى اللاحق للكتاب المذكور والمعنون «أحفورات الفهم، تاريخانيات المعنى» هناك فصل هو الثانى عشر عنوانه: «الكتب الدينية لا تقتل، قراؤها من يفعلون ذلك»، أقوم فيه بتأصيل وتحليل تلك الفكرة.. هذا ما نحتاج تغييره؛ مقاربات القراء ومفاهيم وتفاسير العابدين.. نحتاج تغيير خطابات ومفاهيم وسلوكيات أتباع الآلهة، وليس الآلهة.