«مستقبل الأديان».. الفيلسوف اللبنانى أديب صعب: الوحدة بين مختلف الأديان مشروع للخروج من «نفق التشدد الدينى»
يعد الفيلسوف اللبنانى أديب صعب من الرواد بمضمار فلسفة الدين فى العالم العربى، إذ استطاع عبر مؤلفاته بدءًا من «الدين والمجتمع: رؤية مستقبلية»، مرورًا بـ«الأديان الحية: نشوءها وتطورها»، و«المقدمة فى فلسفة الدين»، ووصولًا إلى «دراسات نقدية فى فلسفة الدين»- أن يضع مشروعًا عمليًا يمكن من خلاله الخروج من نفق التعصب الدينى المعتم وتأسيس تعايش حقيقى بين الأديان.
فى هذا الحوار نناقش مع الفيلسوف اللبنانى أديب صعب، بعض ملامح الحالة الدينية الراهنة، متطرقين للحديث عن مشروعه الفكرى الذى يرسم خطة بديلة لتعليم الدين فى المدارس، والذى يمكن اعتباره خارطة طريق للمستقبل، تطمح إلى تجاوز عثرات الماضى ومشكلات الراهن، بما يضمن تعزيز الاعتراف بالتعددية الدينية.
■ إن كانت فلسفة الدين تركز على المشترك بين مختلف الأديان لتؤسس وجودًا مناسبًا للأديان فى الحاضر والمستقبل، فأى منظور فى ظل السياقات الراهنة يمكن أن يكون المنطلق فى هذا الصدد: أيكون من اعتبار الدين حاجة أنطولوجية أم ضرورة مجتمعية؟
- الجواب عن هذا السؤال يتبع الخط الفكرى الذى يعتنقه الفيلسوف. هناك فلاسفة يرفضون الدين على أساس التناقض الذى يرونه بين الدين والعلم. فى كتبى كلها أظهرت أن مقولة التناقض لا تقوم على أسس سليمة، تبعًا لإخفاق أصحابها فى تحديد نطاق العلم ومنطقه من ناحية، ونطاق الدين ومنطقه من ناحية أخرى. لكن بالرغم من هذا الإيضاح، سوف يبقى على الدوام مفكرون وأتباع لا يعترفون بشرعية الدين بناءً على أن النطاق الوحيد الذى يرونه ويقرون به هو نطاق العلم.
الخط الفكرى الذى أعتنقه شخصيًا يرى أن ضرورة الدين أنطولوجية أو وجودية أو ميتافيزيقية. هذه العبارات تشير إلى مدلول واحد متعلق بالنظرة إلى العالم. فى فلسفتى، الله جزء من النظرة إلى العالم. وكما قال المفكر الفرنسى إتيان جيلسون، الله «يقين ميتافيزيقى»، لا «فرضية علمية». هناك موضوعات ثلاثة كبرى تقوم عليها الفلسفة من حيث هى ميتافيزيقيا أو نظرة إلى العالم: الكون، الإنسان، الله. هذا نجده عبر تاريخ الفلسفة، بدءًا بالفلاسفة الذين سبقوا سقراط ولم تبلغنا من أعمالهم سوى شذرات نقلها أفلاطون وأرسطو وغيرهما.
■ من هذا المنظور، كيف ترى تأثير الأصوليات الدينية على قضية الدين؟
- إذا كان المعنى المشترك بين الأصوليات الدينية أنها تلغى الأديان الأخرى بناءً على مفهوم «الفرقة الناجية» فى الدين والمذهب، مع ما تسفر عنه هذه النظرة الإلغائية من عنف تجاه الآخرين، فهى حتمًا نظرة تخذل الدين وقضيته. الدين الحقيقى رسالة سلام. ولا ننسى أن السلام من أسماء الله تعالى. وكل انتهاك للسلام إنما هو انتهاك للدين والألوهة.
أما مفهوم الفرقة الناجية فنجده حيثما وجدنا عقيدة دينية أو سياسية. ما من دين فى التاريخ أو خط سياسى إلا عرف انشقاقًا بل انشقاقات بُعيد عهد التأسيس. وكل مذهب يدعى لنفسه تمثيل أصالة العقيدة وخطها القويم، أو يتخذ صفة «الحركة التصحيحية» أو «الإصلاحية». وقديمًا قال المعرى: «كل يعظم دينه/يا ليت شعرى، ما الصحيح؟».
فى تحليلى مفهوم الفرقة الناجية، توصلت إلى أن «النجاة» تحصل لا بفضل فرقة أو اسم، بل بتلبية شروط، يمكن اختصارها فى أن يحب المؤمن إلهه بكل كيانه، وأن يترجم هذا بحبه الإنسان الآخر، بغض النظر عن جنسه ولونه ووضعه وعرقه ودينه، كما يحب نفسه. لذلك، بعيدًا عن أن تكون الفرقة الناجية «وكالة حصرية» تحمل اسمًا معينًا، كانت أفرادًا من كل الفرق ومن خارج الفرق، استطاعوا أن يلبوا هذين الشرطين.
■ أشرت فى إطار كتاباتك حول فلسفة الدين إلى وجود عناصر يمكن من خلالها الوصول إلى مفهوم عام لمعنى الدين.. ما هذه العناصر؟
- العناصر المشتركة بين الأديان جاءت فى خلاصة كتابى «الأديان الحية»، التى اعتمدتها تمهيدًا لكتابى «المقدمة فى فلسفة الدين». لكى نصنف نظامًا معينًا تحت الدين، يجب أن تكون له الخصائص الآتية:
أولًا: هذا العالم الظاهر، بما فيه من فلك وأرض ومياه ونبات وحيوان وبشر، لا كيان له فى ذاته ومن ذاته، وإنما يستمد وجوده وحقيقته ومعناه من حقيقة تقوم وراءه. هذه الحقيقة قائمة بذاتها ومطلقة ومجردة عن المادة وغير محدودة، فيما العالم المنظور مادى ومتبدل ومحدود.
ثانيًا: لا يكفى الإقرار بهذه الثنائية بين الظاهر والحقيقى لكى يصير نظام معين دينًا. ولو توقف الدين عند هذه العقيدة لما اختلف عن الفلسفة. ثمة شرط آخر لوصل المحدود باللا محدود أو النسبى بالمطلق. هذا الشرط هو الطقوس، كالصلاة والصوم والتبرك بأماكن وأوقات تحمل قداسة لأتباع هذا الدين أو ذاك.
ثالثًا: شرط آخر لتضييق الهوة بين العالمين هو قواعد سلوكية معينة تجعل الأخلاق جزءًا لا يتجزأ من الدين. رابعًا: فى سعيه الخلقى، يتخذ المؤمن من مؤسس دينه قدوة للمحاكاة. أخيرًا: فى كل دين جماعة من الأخيار الصالحين الذين نجحوا، إلى حد بعيد، فى محاكاة المؤسسين. هؤلاء هم القديسون أو الأولياء، الذين يحاول المؤمنون الاقتداء بهم للتقرب أكثر فأكثر من العالم السماوى.
هناك آخرون توصلوا إلى عناصر مشتركة، بينهم الدارس الأمريكى وليم جيمس فى كتابه «تنويعات التجربة الدينية»، والدارس الألمانى رودولف أوتو فى كتابه «فكرة المقدس»، والدارس البريطانى نينيان سمارت فى كتابه «أديان العالم». وهناك شبه أساسى بين ما توصلوا إليه، على الرغم من الاختلاف فى عدد العناصر لدى كل منهم وفى الأسماء التى أطلقوها على هذه العناصر. لكن لا بد من الإشارة إلى أن كلًا منهم بنى نتائجه على دراسته للأديان. وهذا ما فعلته شخصيًا، فالعناصر المذكورة نتيجة لدراستى الخاصة للأديان، وهى تتيح لنا الكلام عن «جوهر الدين». أما أن يكون ثمة جوهر للدين أو وحدة بين الأديان فلا يعنى انحلال الأديان كلها إلى دين واحد.
■ وما الذى يمثله الوصول إلى جوهر الدين من أهمية فى الواقع المعاصر؟
- ما يعنيه جوهر الدين أو وحدة الأديان هو أن الأديان، على تنوعها، تؤدى وظيفة واحدة. فالشبه بين الأديان شبه فى الوظيفة، لا فى التفاصيل. بالتالى، وحدة الأديان لا تعنى انحلال كل الأديان إلى دين واحد. فلكل دين نظرته إلى الألوهة وطقوسه الخاصة وتفاصيله الخلقية ورسله وأولياؤه ومعلموه.
هذا يدعو المؤمن من دين معين إلى الإقرار بأن ما يحاول فعله بواسطة دينه هو ما يحاول الآخرون فعله، كل عن طريق دينه. لذلك دعوت إلى ألا نجعل مما يفرق عدو ما يجمع، ولا مما يجمع عدو ما يفرق. وهذا تأكيد على محور فكرى الدينى وفلسفتى كلها، وهو ما سميته «الوحدة فى التنوع» منذ كتابى الأول فى فلسفة الدين «الدين والمجتمع» «١٩٨٣». فالوحدة بين الأديان ليست وحدة تعسفية تقضى على التنوع الدينى، بل هى وحدة ضمن التنوع أو وحدة فى التعدد.
■ لماذا لا يجد مثل ذلك الجهد مكانًا فى الفكر السائد الذى تحكمه الصراعات والتحزبات؟
- هذا أمر صحيح إلى حد بعيد، وهو أمر مؤسف حقًا. ولعل التقهقر فى الواقع الفكرى والاجتماعى العربى بدأ قبل مائة سنة بالتحديد، مع رفض الأفكار المنفتحة التى جاء بها كتّاب مثل على عبدالرازق وطه حسين، وتوالى الكتب والكتابات والدعوات ضد هذا النوع من الأفكار. منذ ذلك الحين شهدت الأفكار التنويرية التى انتشرت مع النهضة العربية الحديثة، خصوصًا فى جناحيها المصرى والشامى، انحسارًا شديدًا لا يزال مستمرًا ومتخذًا أشكالًا متنوعة، بالرغم من المفكرين والكتب والمؤلفات والمؤسسات التربوية والإعلامية والثقافية المحافظة على قيم النهضة، وكنا نتوقع أنظمة سياسية عربية تتبنى هذه الأفكار والقيم، إلا أن ذلك بقى خجولًا. وأحد أسباب عدم الانفتاح السياسى الصريح على هذه الأفكار انحياز الأنظمة عمومًا إلى تيار الأكثرية المنغلق، ربما خشية وتحفظًا فى بعض الأحيان.
■ وكيف، برأيك، يمكن الخروج من مأزق التعصب الفكرى إلى تصور رحب فى فهم الإيمان؟
- شخصيًا، وجدت أحد مفاتيح الخروج من هذا المأزق فى تعليم الدين، لذلك جعلت الناحية التعليمية أو التربوية جزءًا من مشروعى الفلسفى الإصلاحى، وقد ركزت على هذا الموضوع فى كتابى الأول فى مجموعة فلسفة الدين، وهو «الدين والمجتمع» الصادر عام ١٩٨٣ والمخصص، فى معظمه، لرسم خطة بديلة لتعليم الدين، وتردد صداه حتى الكتاب الأخير، وهو الخامس فى المجموعة، «دراسات نقدية فى فلسفة الدين» «٢٠١٥».
تقوم الخطة على التمييز بين تعليم الدين باتباع مناهج علمية وتاريخية وفلسفية واجتماعية، والتعليم الدينى باتباع مناهج عقائدية. وقد اقترحت اتباع مناهج التاريخ والفلسفة فى تعليم الدين فى المدارس دون استثناء، مع إحالة التعليم الدينى العقائدى إلى مؤسسات خاصة، غير المدارس، تنشئها الطوائف والمؤسسات الدينية لهذا الغرض. وهذا النوع من المؤسسات قائم حقًا، وإن سعت بعض الطوائف إلى توسيع نطاق عملها ليشمل المدارس أيضًا.
ومن حسنات البرنامج البديل الذى طرحته الاعتراف بالتعددية الدينية وإجلال القيم الاجتماعية، وفى رأسها الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الإنسان. ومن هذه الحسنات أن يعرف المتعلم ما هو الدين وما هى مسائله وكيف يتصدى لمفاهيم مثل: العقل والإيمان، البرهان، وجود الله، التجربة الدينية، المعجزات والخوارق، مسألة الشر، الموت وما وراءه، علاقة الدين بالأخلاق والعلم والدولة والمجتمع؟. هذا ضرورى جدًا لكى يؤتى التعليم الدينى العقائدى ثمارًا طيبة، ولكى يكون الدين عامل سلام على الصعد النفسية والاجتماعية والعالمية جميعًا.
لا شك أن هذا برنامج مثالى، دونه عراقيل وصعوبات جمة، لكن لا ننسى أن كل البرامج الإصلاحية، كما فى الأخلاق والسياسة، برامج مثالية أيضًا، فهى معنية، قبل كل شىء، بما يجب أن يكون. وما يجب أن يكون قد يكون بعيدًا، بنسب متفاوتة، عما هو كائن. ولو توقفت الأخلاق والسياسة والتربية عند حدود ما هو كائن ولم تتجاوزه إلى ما يجب أن يكون لما تحقق أى هدف كبير. الإصلاح المنشود مسئولية مشتركة بين قادة المجتمع، من مفكرين وتربويين وسياسيين وإعلاميين وسواهم. والإصلاح، فى كل مجال وكل زمان ومكان، عملية طويلة مستمرة.
■ ما رأيك فى دعوات إحلال الإنسانية مكان الدين، بما ينجم عن ذلك من اتباع مبادئ أخلاقية مبعثها الضمير والتخلى عن المطلق الإلهي؟
- فى حين أن الدين لا يقوم دون نظام خلقى، إلا أن الأخلاق يمكن أن تقوم باستقلال عن الدين. من هنا أفهم دعاة العلمانية الذين يكتفون بالأخلاق، فالنظام السياسى ودساتير الأمم تقوم على مفهوم المواطن، لا على مفهوم المؤمن. والمطلوب من المواطن احترام حرية شركائه فى الوطن وكرامتهم من ضمن احترام القوانين وعدم خرق السلام الاجتماعى، هذا من ناحية المواطنة والقانون والأخلاق، أما الإيمان والدين فلا يفرضان بقوانين، وهما خارج مفهوم القانون.
إلا أنه لا يجوز أن تذهب المغالاة ببعض العلمانيين الإنسانيين إلى الاستعاضة عن أديان الوحى وجعل الإنسانية الفلسفية دينًا. وإذ أفهم هذا النزوع الجميل لدى بعضهم نحو ما يجمع الناس، إلا أنى لا أفهم أن تكون الإنسانية دعوة إلى دين يحل مكان الأديان. ولو نجح هؤلاء الدعاة فى إنشاء دين هو «الإنسانية»، فلا بد لهذا الدين من أن يتفرع سريعًا إلى مذاهب قائمة على اختلاف النظر والتفسير والاجتهاد كما حصل مع الأديان التقليدية. وفى الغرب جمعيات متعددة، لا جمعية واحدة، تطلق على نفسها اسم الدين الإنسانى، ولئن كان هذا «الدين» قائمًا على العقائد الفكرية المجردة أكثر من قيامه على الطقوس، إلا أن بعض الجمعيات الإنسانية تمارس طقوسًا فى مناسبات كالزواج والدفن، وإنْ كانت بعيدة عن طقوس العبادة.
لكنْ يبقى ثمة معنى للقول الشائع: «اعتنق الإنسانية، وبعد ذلك اعتنق ما شئت من الأديان»، وهذا ينسجم مع مبدأ الوحدة فى التنوع كما ذكرته فى جوابى عن السؤال السابق. ومن يبنى إيمانه على الإنسانية الواحدة يكتشف ما أسميه «الدين فى الأديان» أو «الوحدة فى التنوع»، أى وحدة الجوهر وسط تنوع المظاهر، أو وحدة المعنى ضمن اختلاف التعابير.
وقد جاء فى خلاصة كتابى «الأديان الحية» «١٩٩٣»: «المطلوب ليس أن يبدل المرء دينه، بل أن يقبل الآخرين على دينهم. وهذا يقتضى قيام مفكرين ومفسرين فى كل دين، يعمل كل منهم على تفسير دينه انطلاقًا من الإنسانية الواحدة ووصولًا إلى الإنسانية الواحدة. وإذا كان من أمثولة يجدر أن يتعلمها اللاهوتيون والمفكرون الدينيون من الحركة الإنسانية المعاصرة التى ادعت لنفسها صفة الدين، فهى أن المسيح ومحمّدًا وسائر الأنبياء والرسل والمعلمين الإلهيين جاءوا لا ليجعلوا من أتباعهم (مسيحيين) أو (محمّديين) بالمعنى اللفظى أو الشكلى أو الاسمى للعبارة، بل ليجعلوا منهم أُناسًا مخلَّصين». وفى «المقدمة فى فلسفة الدين» «١٩٩٤» قلت إنّ من لم يكن له «دين طبيعى» «أو عقلى أو فطرى»، «فكل دين موحى هو عبءٌ عليه».
■ تنبّأ عدد من المفكرين وعلماء الاجتماع بانحسار الدين، ولا سيّما مع التطور التكنولوجى الراهن.. كيف ترى المشهد؟
- لا شك أن الدين شهد انحسارًا مع تقدم الفكر العلمى والتطور التكنولوجى، وإنى أعزو بعض عوامل هذا الانحسار إلى ضعف الفلسفة والتفكير النقدى، فالعلم غير الدين، وهذا يعنى أن نطاق العلم ومنطقه مختلف عن نطاق الدين ومنطقه.
فى القرن ١٧- ١٨، بعد اكتشاف نيوتن قانون الجاذبية، كان كلما لاحظ شذوذًا فى حركة الأجرام عن هذا القانون عزاه إلى «تدخل إلهى»، لكن ما لبث الفيزيائى الفرنسى لابلاس، فى القرن التالى، أن بين شمول قانون الجاذبية بإظهاره أن تلك الحركات ليست شاذة حقًا بل تقع ضمن القانون. وعندما سأله الإمبراطور نابليون عن سبب إبقائه الله خارج نظامه العلمى، أجاب: «سيدى، لا حاجة بى إلى تلك الفرضية»، علمًا بأن لابلاس كان مؤمنًا بالله هو الآخر، لكنه رفض إدخاله إلى نظرته العلمية كـ«إله ثغرات» أو «إله فجوات»، على حد تعبير العالم المؤمن تشارلز ألفريد كولسون من جامعة أكسفورد، حتى إذا مُلِئَت هذه الثغرات انتفت الحاجة إليه. من مهمات الفيلسوف تحديد نطاق كل من العلم والدين ومنطقه من أجل دحض فكرة التعارض أو التناقض وتأسيس علاقة سليمة بين الاثنين. ومما يؤسف له أن انحسار الدين لم يحقق الجنة على الأرض، بل جلب معه أوهامًا أو أوثانًا، مثل «الأمة» أو «القومية» أو «الجماهير» أو هذا التيار السياسى أو ذاك، لتأخذ مكان الدين. هكذا حلت مطلقات زائفة مكان المطلق الحقيقى. بهذا المعنى، ليس انحسار الدين، دين الألوهة الحقيقية والمحبة والسلام، بالأمر المرغوب.
كيف يمكن أن تصوغ المعطيات الراهنة فى الغرب التصورَ الدينى على نحو مختلف عن بدايات عهد الحداثة؟
- كما انحرف العالم الشيوعى بالعلمانية عن معناها الصحيح بحيث تجاوزَت هدف فصل الدين عن الدولة أو السياسة لتحاول استئصاله من المجتمع، هكذا انحرفت علمانية الغرب من تحرى العلم والكشف والتفكير النقدى التى حملتها الحداثة إلى «علموية» متزمتة توحد الدين بالخرافة على الصعيد الفكرى الطاغى على الجامعات والكثير من المؤسسات التربوية والإعلامية والاجتماعية.
أما مسئولية الخروج من هذا المأزق فهى مسئولية مشتركة بين المفكرين المتنورين من مختلف المجالات. والمؤسف أن الفكر الغربى اليوم يعانى ركودًا وانحسارًا فى الإبداع. ولعل المسئولية الرئيسية فى هذا المجال تقع على ممثلى الفكر الدينى، الذين قَبِلَ بعضهم مقولات الفلسفات المادية وتلك المسماة «تجريبية»، مثل فلسفة ديفيد هيوم وأتباعه من الخط التحليلى، فحصروا مفهوم «الموضوعيّة» بالعلم، فيما أحالوا الدين على النطاق «الذاتى».
فى فلسفتى عالجت هذه المسائل باستفاضة، وفى كتابى «المقدمة فى فلسفة الدين» طرحت نظرية معرفة بديلة لنظرية الفلسفة «التجريبية»، تجد أن مفاهيم من نوع «الموضوعية» و«العقل» هى مفاهيم نسبية، تابعة للموضوع أو المعقول. فموضوع الدين، وهو الله، غير موضوع العلم، ولا يمكن للمؤمن الجادّ أن ينظر إلى الله كمفهوم «ذاتى» يفتقر إلى الموضوعية.