«مزيكا بتشبه لى».. ديوان عامية يعلن عن شاعر كبير
يبدو الشاعر المصرى محمود فهمى صوتًا مميزًا فى شعر العامية المصرية، العقدين الأخيرين، حيث أصدر خمسة دواوين فى العامية كان أحدثها «مزيكا بتشبه لى»، والمتابع لما قدَّمه الشاعر عبر هذه الدواوين، يجده يمتاز بشخصية إبداعية لها بصمتها الممثلة فى أسلوبه التعبيرى الذى يقدِّم معادلة خاصة فى صناعته الشعرية تجمع بين التدفق الإيقاعى المعتمد على الجمل القصيرة والثراء الموسيقى المؤسس على أناقة قوافيه، وأيضًا معانيه الواضحة والعميقة، وصوره البسيطة التى تتراكب فى أنساق مترابطة، بما يلائم الحالة النفسية لموضوع النص الشعرى.
فى ديوان «مزيكا بتشبه لى» المكوَّن من ٣٧ قصيدة أو مقطعًا شعريًا لا يحمل أى منها عنوان الديوان، لتبدو هذه المقاطع بمثابة «مزيكا» منسابة تتشابه فيما يربطها من موضوعات تتركز فى تداعيات الحنين الذاتى لأشيائها الحميمة وزمانها المنقضى وأماكن صباها وبهجتها ورفاق عهد جميل ولّى.
يجسَّد ديوان «مزيكا بتشبه لى» مأساة الذات فى واقع يضاعف اغتراباتها، وتبدو فى حالة انفصام عنه، كما فى قصيدة «ضِل»:
«أنا الرصيف اللى اتنسى/ فـ شارع بعيد/ أنا ضل سور المدرسة/ المتروك وحيد/ وأنا اللى ف عيون المسا/ بردان شريد/ إيديا بتضم المطر/ مش لاقية إيد/ بهتانة ف عيونى الصور/ والليل مخيف/ أنا الخيال اللى اتنسى/ فوق الرصيف».
تعيش الذات حالة تماهٍ وتوحُّد مع أشياء ارتبطت بها فى طفولتها وصباها، لكن الغالب عليها فى تمثلها لنفسها شعورها بأنَّها «ضل»، أى كينونة شبحية، حضور باهت، «خيال اتنسى»، ذات تشعر بالهامشية، كرصيف منسى فى «شارع بعيد»، فى إحساس بإقصاء العالم لها، يثقله شعور آخر بافتقاد الآخر: «إيديا بتضم المطر/ مش لاقية إيد» فى ظل إحساس ببرودة العالم لافتقاد الذات حرارة المشاعر التى يمكن أن يشاركها بها الآخر. ثمة تداعٍ منهمر للصور والتشبيهات التى تتعدد وتتنوع فى تمثيل الذات لاغترابها، فتأتى بنية الصور شجرية، تتدلى منها عناقيد المشبَّه به. وإذا كانت القصيدة قد بدأت بتمثل الذات نفسها بكونها رصيفًا منسيًّا، فإنَّها تختتم بكونها خيالًا/ شبحًا منسيًّا فوق الرصيف: «أنا الخيال اللى اتنسى/ فوق الرصيف» فى أسلوب أقرب إلى الدائرية، ما يرمز إلى دائرية أقدار الذات وإحساسها بأنَّها تمضى فى عالمها وحياتها فيما يشبه الدائرة القدرية، دوامة من الاغترابات تدور فى دائرتها الذات.
ونتيجة الاغتراب فى الواقع الآنى ثمة ارتداد إلى الوراء ونوستالجيا غالبة على الذات وحنين عارم إلى زمن الماضى، كما فى قصيدة بعنوان «استغماية»:
«شدونى م المتاهات/ ودونى جوه الأمس/ خلونى أرجع طيف/ لا خوف عليه ولا بأس/ ردونى تانى خيال/ على رصيف عين شمس/ على رصيف مبلول/ بالمطرة والحواديت/ على سطوح مفروش/ بالشمس والكتاكيت/ على جدار مسنود/ بانده وأقول خلاويص/ كل العيال بتهيص/ تنده تقول لسه/ أهى خلصت القصة/ وأنا لسه باندههم/ بعدوا بعيد خالص/ مابقتش باسمعهم/ وسمعت صوت عصافير/ جايز نهار شقشق/ فتّحت عينى لقيت/ كل الجدار شقَق/ حتى الطريق فاضى/ يا بهجة الماضى/ أنا تهت ليه عنك؟».
تُداخل الذات رغبة فى الانسحاب من عالمها الآنى لإحساسها بمتاهيته، والنكوص إلى الماضى، تحتمى به؛ لتستعيد زمن اللهو واللعب الطفولى، لكن المفارقة التى يستعملها الصوت الشعرى متمثلة فى لعبة الـ«استغماية»، فى أنَّ الرفاق قد بعدوا بينما لا تزال الذات فى لعبتها الطفولية الأولى، وبراءة تطلُّعها إلى الآخر ومناداتها له، ومع سماع الذات صوت العصافير بما تحمله من معانى البراءة والرقة ورهافة التكوين وتطلعها لأن يكون ذلك إيذانًا بمولد نهار جديد بما يعنيه النهار من رموز الأمل وتجديد الحياة، غير أن ما تعاينه الذات شروخ فى الجدار، فيعمل التقارب الصوتى بين «شقشق» فى تصوُّر الذات لطلوع النهار، و«شقَق» فى فداحة ما تعاينه من خيبة رجائها بانشقاق الجدار وشروخه على تمثيل المفارقة المعبِّرة عن خيبة أمل الذات بين ظنها المتفائل وواقعها الصادم، وهو ما يفضى بها إلى الانتهاء بالتساؤل الحائر: «يا بهجة الماضى/ أنا تهت ليه عنك؟» فى اختتام للقصيدة بدائرية للمعنى أيضًا، حيث «توهة» الذات عن بهجة ماضيها، بما يتصل بمفتتح القصيدة عن استغاثة الذات لتخليصها من متاهاتها.
ونتيجة وطأة ما تحمله الذات من هموم وذكريات أليمة تتجه لمحاولة التخلُّص من ركام مشاعرها السلبية، كما فى قصيدة «أى حاجة قديمة للبيع»:
«يا عم يا بتاع البيكيا/ أنا عندى حلم قديم خالص/ ماعرفش أنا فين ضيعته/ جايز فى ركن بعيد شيلته/ أو تاه فى كراكيب الماضى/ ضيعت وقت على الفاضى/ والحلم فاتت صلاحيته/ صلاحيته عدى عليها زمان/ زمانه عجز ع الآخر/ زمانه صدى من الركنة/ أو مات فى دواليب النسيان/ أنا عندى غير الحلم كمان/ أباجورة بايظة مابتنورش/ وكرسى بامبو من الغالى/ عليه زمان كنت أتمرجح/ أروح مع الحواديت وأسرح/ وأسيب مع الحلم خيالى/ وعندى سجادة قديمة/ ورودها دبلت ع الآخر/ من مدة نسيتها الخطوات/ ماعادش بيعدى عليها/ غير ضل واحد يشبه لى/ عندى كمان متهيألى/ فوق الدولاب ساعة قديمة/ تملى كانت بتأخر/ استنى ع الحلم هادوَّر/ خده ووياه الكراكيب/ خدهم ومش عايز حاجة».
لقد تساوى لدى الذات أحلامها القديمة وأشياؤها القديمة، فتعتريها الرغبة فى التخلُّص منها والتخلى عنها لبائع المُخلَّفات، «البيكيا»، فى شعور عدمى بفقدان الحلم صلاحيته، ومع تخليها عن الحلم تتخلى الذات عن أشيائها الخاصة، كالـ«أباجورة» التى عطلت عن العمل، بما ترمز إليه الأباجورة من وسيلة الإنارة الناعمة الأثر، فكأنَّ الذات فقدت طاقات الاستنارة الرومانسية لديها، وكذلك تتخلى الذات عن الكرسى الذى كانت تتأرجح عليه فى انطلاقاتها الحالمة، ما يؤكِّد تخليها عن الرغبة الطفولية اللاهية فى الحلم، وتتخلى أيضًا عن سجادة قديمة ذبلت ورودها فى شعور بذبول الحياة وافتقادها الحيوية، وترتبط هذه السجادة بمشى «ضل» شبيه للذات عليها، لم يعد يمشى بعد، فيبدو هذا الظل، هو الذات القرين، الذات الحالمة، وتتخلى كذلك عن ساعة قديمة كانت تتأخر عن الزمن الحقيقى، فى شعور بانفصام الذات عن الزمن، أنَّ الزمن لم يكن أبدًا لها ولم تكن الذات لتتوافق معه. فى شعر محمود فهمى تفجير لشعرية الأشياء التى تقوم الذات بإحالات لمشاعرها النفسية بإسقاطها عليها.