فى ذكرى الهجرة نسأل: لماذا اختفت الأغنية الدينية؟
مضت أيام كنا ننتظر فيها المناسبات الدينية لنتلقى جرعة فنية راقية من الغناء الديني الذي يهذب الأرواح ويعلي من إحساسنا بتلك المناسبات ويترك في وجداننا أثرًا طيبًا- أطفالًا ثم شبابًا- بمناسبات دينية كذكرى المولد النبوي، وذكرى الهجرة المشرفة التي نحن بصدد الاحتفال بها اليوم، وليس لمنصف أن يتجاهل ما بذله الإذاعي الراحل على عيسى، صاحب فكرة "الليالي المحمدية"، التي بدأت عام 1984 واستمرت لسنوات طويلة لتترك رصيدًا قيمًا من الغناء الديني وبأصوات كبار المطربين والمطربات.
أتذكر مثلًا تلك الليلة المحمدية التي أنتجتها الإذاعة المصرية عام 1990، والتي شدا فيها العمالقة "محمد قنديل، ياسمين الخيام، سوزان عطية، عفاف راضي، محمد ثروت، زينب يونس، محمد الحلو، عبدالله الرويشد، وردة الجزائرية"، ليس هذا فحسب بل ألقى الأشعار من عمالقة التمثيل "محمد السبع، مديحة حمدي، نادية رشاد، أشرف عبدالغفور، محمود الحدّيني، محمد وفيق، سعاد العبدالله"، وكانت تلك الليلة من تأليف الأبنودي ولحن جمال سلامة والإخراج المسرحي لجلال الشرقاوي والتليفزيوني لشكري أبوعميرة.
غير أن الليلة المحمدية الأشهر هي تلك التي قدمتها الإذاعة إبّان الغزو العراقي للكويت، وتم خلالها تقديم عدد من اللوحات الغنائية التي كان لها دور السحر في خلق رأي عام مصري وعربي ضد الغزو العراقي للكويت عام 1992، ولا نزال نتذكر أغنيات الحاجة ياسمين الحصري وعبدالله الرويشد وكيف بكى الجمهور معهما تفاعلًا مع روعة الكلمات وصدق الأداء.
وتأتي في ذات المنزلة أغنية شادية التي شدت بها في الليلة المحمدية 1986، حيث الظهور الأخير لها كمطربة حين قدمت أغنية "خد بإيدي" كلمات علية الجعار ولحن عبدالمنعم البارودي لتعلن بعدها الاعتزال والذي استمر حتى رحلت.
ولا أدري لماذا توقفت الإذاعة عن الاستمرار في تقديم تلك الإبداعات المتميزة، ربما يكون لرحيل بعض القائمين عليها كعلي عيسى ومن بعده وجدي الحكيم دور في هذا، ولا أظن أن الأزمة المالية كانت قد بلغت ما وصلت إليه الآن فعطلت تنظيم تلك الاحتفالات، بُذلت بعد ذلك عدة محاولات فردية لاستعادة تلك الليالي الغنائية التي كانت تسمو بالروح وينتظرها الجمهور عامًا بعد آخر لشحن النفوس بالكلام الطيب والنغم الراقي.
أذكر مثلًا أنه تم تنظيم احتفالية في عام 2014 بإشراف الإذاعي عبدالرحمن رشاد، رئيس الإذاعة الأسبق، ولكن بمشاركات من نجوم الصف الثاني من الفنانين، ثم اجتهد الشاعر الراحل صفوت زينهم عام 2018 ليقدم "ليلة محمدية" أخرى وضع ألحانها الملحن صلاح الشرنوبي.
ولكنني أشهد أنه كان جهدا فرديا اجتهد في تنفيذه الشاعر الراحل ووجد في سبيله من المعوقات ما جعله لا يكرر التجربة بعد عرضها على مسرح وزارة الشباب حتى رحل.
وتظل جهود الاحتفال بالمناسبات الدينية جهودًا فردية كتلك التي يحييها المطرب الكبير محمد ثروت صاحب الإبداعات الدينية المتميزة من كلمات كبار الشعراء كالراحل بشير عياد، وهناك أيضًا المنشد حسام صقر محفظ ومدرب الأصوات بفرقة الإنشاد الديني.
لكن التنظيم المؤسسي لمثل تلك الاحتفالات صار مقتصرًا على دار الأوبرا التي تحييها فرقة الإنشاد الديني بفنانيها المتميزين، وما يؤخذ عليهم أنهم يكتفون بتقديم الأغاني القديمة الشهيرة، بمعنى أن تلك الاحتفالات تفتفر لإنتاج الأغنية الدينية الجديدة.
الخلاصة أن في المغنى الذي هو "حياة الروح" ما يجعلنا شديدي الحرص على أن تعود الأغنية الدينية إلى مكانتها، خصوصًا مع وجود أقلام من الشعراء الصادقين أمثال
"جمال بخيت، عبدالعزيز جويدة، سراج الدين عبدالقادر، محمد علي راشد، أنور عبدالمغيث"، ويزيد طموحنا تألق تلك الأصوات الجميلة التي لا تزال تملأ الساحة بعبيرها- رغم الاختفاء الغامض لمعظمها- أمثال "أحمد إبراهيم، طارق فؤاد، إيهاب توفيق، محمد الحلو، علي الحجار".
وبعد رحيل أحمد الحجار لا يزال على الساحة ملحنون كبار من أبرزهم الموسيقار حسين فوزي الذي قدم دررًا غنائية دينية كثيرة مثل «صلينا الفجر فين، يا بركة رمضان»، وهناك غيره أمثال "أمير عبدالمجيد، طارق عباس، إيهاب عبدالسلام، أمجد العطافي"، علاوة على المطرب والملحن الكبير أحمد الكحلاوي الذي هو امتداد لمدرسة والده شيخ المنشدين محمد الكحلاوي.
غير أن الجهد الأكبر يبقى معلقًا برقبة المؤسسات الرسمية التي لا يقدر على التصدي لتحقيق ما نصبو إليه إلا هي، فتنظيم مثل تلك الاحتفالات وتسويقها أمر لا يقدر عليه سوى مؤسسات رسمية محترفة كشركة "تذكرتي" مثلًا.
وليست الجهود الفردية التي تسعدنا من حين لآخر كتلك التي أبدعها وائل جسّار أو أنغام أو مصطفى عاطف أو محمود التهامي بكافية لسد الفجوة الإنتاجية التي خلّفها غياب هذا الدور الراقي الذي كانت تتصدى له الدولة ممثلة في مؤسساتها الإبداعية التقليدية.