توفيق الحكيم.. الفنان الشامل
- أول من أدخل أساطير اليونان إلى مسرح العرب وأضفى عليها الفلسفة والدراما العصرية
- قدم لنا أوديب كرمز لسلطة الأرض وجيل الشباب الصاعد فى مواجهة نفوذ الكهنوت
- ثورة النساء فى مسرحية «براكسا» مزدوجة وتمثل انقلابًا على حكم الرجال والفساد والاستبداد
- ناقش الاغتراب فى «أهل الكهف» وقال إن العدم هو الحياة المطلقة بلا ذكريات ومشاعر
- رواية «عصفور من الشرق» تنتقد الغرب المادى والتكالب على الثروات وإغفال الجانب الروحى
- علّمنا أن الحب هو الوسيلة الوحيدة لرؤية الخالق وفضح جمود الخطاب الدينى بقصة «أرنى الله»
يحق لنا أن نصف توفيق الحكيم بـ«الفنان الشامل»، فهو مؤسس الدراما العربية الحديثة، ورائد الكتابة المسرحية العربية فى القرن العشرين على نحو درامى ملتزم وحداثى فى عصره، كذلك كان- رغم إغفال البعض- رائد الكتابة الروائية العربية الحديثة. فيلسوف بدرجة أديب، ومبدع بداخله مفكر. شجرة فنية متعددة الفروع، ثرية الثمار؛ إذ كتب المسرحية، والرواية، والقصة، والمقال، والشعر أيضًا. يتمثَّل فضل «الحكيم» على الأدب العربى فى أنه انتقل بالمسرح العربى من مرحلة المسرح الحكائى إلى تأسيس مسرح مستوفٍ شروط فن الدراما التى هى روح المسرح، مسددًا استحقاقاتها، مراعيًا قواعدها، مطبِّقًا أصول لعبتها، وملتزمًا بمكوناتها البنائية.
تغذّى مسرح «الحكيم» من عدة روافد، أبرزها الأساطير اليونانية، فاستلهم العديد من أساطير اليونان القديمة التى كانت بمسرحهم، وتناولها العديد من مؤلفى الدراما الغربيين، غير أن «الحكيم» كان له فضل السبق ودور الريادة فى زواج المسرح العربى من الأسطورة الغربية والمسرح اليونانى القديم، غير أن مزية أدب «الحكيم» لا تقف عند كونه أول كاتب عربى يُدخِل الأسطورة المسرح العربى، بل تميز «الحكيم» بتناوله الدرامى الخاص الذى يبعث روحًا جديدًا فى جسد الأسطورة ويضخ دماءً عصرية فى أوردتها، كما أنه يشحن تلك الأساطير بطاقات من الأفكار وحمولات من الرؤى الفلسفية، كما جدَّد الحكيم مسرحه بكتابته «مسرح المجتمع»، مسرحيات من فصل واحد، تناقش مشكلات مجتمعية متنوعة، والذى مثَّل انتقال الحكيم إلى الأدب الواقعى، وكتب كذلك مسرح اللا معقول، أو مسرح العبث كما فى مسرحية «يا طالع الشجرة» التى شكلت نقلة طليعية فى مسرحه.
فى مسرحية «الملك أوديب» عن أسطورة «أوديب» لـ«سوفوكليس» التى تحكى عن «لايوس» ملك «طيبة»، تنذره الآلهة بأن نهايته مقتولًا ستكون على يد ابن له، وبمجرد إنجابه صبيًا يدفع به لأحد خدمه لقتله، غير أن الخادم يشفق على الصبى ويهرِّبه إلى مملكة «كورنتس»، فيعهد ملكها «بوليبوس» بالصبى إلى أحد خدمه لتربيته.. ويكبر الصبى «أوديب» ويصير شابًا، ويسمع بعض أقاويل تدفع بأنه ليس ابنًا لملك «كورنتس»، وتنبِئه الآلهة بأنه سوف يقتل أباه إذا عاد إليه، فيترك «أوديب» مدينة «كورنتس» مقررًا عدم العودة إليها؛ ظنًا منه أنها مسقط رأسه، ليقصد مدينة «طيبة» التى لم يكن يعلم أنها مولده وموطنه الأصلى، فيلاقى بمدخلها وحشًا كان لا يسمح لأحد بدخول المدينة إلا إذا أجاب عن سؤال يطرحه الوحش الغريب الذى لم يستطع أحد إجابة سؤاله، فقتل كل من قصد المدينة، غير أن «أوديب» يحل لغز الحيوان الغريب ويقتله، ويدخل مدينة «طيبة» التى سافر ملكها، مقررًا مكافأة من يستطيع تخليص مدينته من ذلك الوحش الخطير بتوليته الملك، فيصبح «أوديب» ملكًا، ثم يأتى خبر موت الملك «لايوس» وحراسه على يد مجهول، فيتزوج «أوديب» الملك من الملكة «جوكاستا» التى لم يكن يعرف- وكذلك الملكة- أنها أمه، وينجب منها أربعة أبناء، أكبرهم «أنتيجونه»، ثم يتفشى وباء بالمدينة، ومن هذه النقطة فقط يبدأ «الحكيم» مسرحيته «الملك أوديب»، خارجًا عن نسق الدراما التقليدى، الذى يسلك خطًا تصاعديًا يبدأ بالتمهيد المعرِّف بشخوص المسرحية، متتبعًا حكايتهم من بداية تلاقيهم وتجمعهم فى موقف درامى، فينحى الحكيم هذا المدخل التقليدى؛ ليبدأ مسرحيته من وسط الحكاية الأسطورية، التى كانت تمثِّل قلب البناء الدرامى الكلاسيكى، وهى «العقدة» الدرامية التى تمثل بؤرة تأزمٍ متصاعد يبحث عن حل له، لا يستغنى عن العودة لجذور الحكاية «بدايتها». تتجلى حداثة تناول الحكيم تلك الأسطورة فى انطلاقه من نقطة التأجج المأزوم وبحثه عن علل الأزمة المفضية لها، بغية حلها؛ فـ«الحكيم» يستبدل السؤال «كيف ستسير الأمور؟» بالسؤال «ماذا حدث ولماذا؟» المنقب عن مسببات الأحداث وبواعث الأزمات.
وفى مسعاه المُلح لمعرفة أسباب الوباء الذى ضرب مدينته التى يحكمها، يستدعى «الملك أوديب» الكهنة باعتبارهم رجال الدين والحكمة، فيخبره الكاهن «ترسياس» بالحقيقة المفجعة، ويعود إلى قصره ليجد الملكة زوجته وأمه قد شنقت نفسها. ولا يقتصر تجديد «الحكيم» فى تناوله المسرحى هذه الأسطورة على تعديله مسار خطها الدرامى بادئًا من منتصف الحكاية، ومنطلقًا من عقدتها، إنما يبرز هذا التجديد بتجاوز تلك المسرحية مجرد الطرح الفرويدى الذى يتعامل مع رمزية الحالة «الأوديبيّة» على أنها تحدى الابن للسلطة الأبوية، لتأخذ مجالًا أرحب من ذلك، لتمتد فتشمل تحدى «الملك أوديب» السلطة الأرضية/ الجيل الشاب الحاكم، لإملاءات السلطة الكهنوتية/ الجيل الأبوى؛ فعندما يقول «الكاهن» للملك «أوديب»: «لا ترسل القول جزافًا يا (أوديب)!.. إن رجال الدين يعرفون أن عروش الملوك ترفع وتخفض بيد الإله، لا بأيدى البشر.. وما كان لنا أن نأتى إليك فى هذا الأمر العظيم، إلا ونحن نعلم أن إلهنا قد أنزل اللعنة على هذه الأرض، وأنه قد أوحى إلينا أن نزيل أسبابها.. وكان عليك أن تتلقى إرادة السماء بإذعان.. لا أن تلقى علينا رعدك وبرقك، لنخفى صوت الحق الذى هبط من أعلى!»، ليرد «أوديب» مستنكرًا: «صوت الحق؟!.. ما هو صوت الحق هذا الذى تسمعونه أنتم ولا أسمعه أنا؟.. أليس لى مثلكم أذنان فى رأسى؟!»، فيبدو «أوديب» الحكيم، الذى يمثّل سلطة الأرض وجيل الشباب الصاعد، فى تحدٍ للسلطة الكهنوتية المقدسة، التى تزعم وساطتها بين الإله والبشر، وامتلاكها الحقيقة المطلقة، وانفرادها بتلقى الوحى الإلهى، فثمة خروج عن حظيرة الطاعة لتلك السلطة الكهنوتية المتمطلقة، ليقوم «أوديب» بانقلاب على مقولاتها الدوجماطيقية، رافضًا الإذعان لإملاءاتها، المدعية الاستئثار بالحق، والساعية لتحقيقه وفق ما تعتقده، فتكمن إضافة «الحكيم» للمعطى الأسطورى بما يصبه فى وعائه الدرامى من رؤى تنمى تركيبه المعهود، فلا تنسخ مركباته الأصلية، وإنما تضيف إليها.
لقد كان «الحكيم» ثوريًا فى رفضه ثبات الأوضاع القائمة؛ كما فى مسرحيته المستوحاة أيضًا من أسطورة يونانية قديمة «براكسا أو مشكلة الحكم»؛ حيث تستولى مجموعة من النساء، تتزعمهن «براكسا جور»، على ملابس الرجال وعصيهم وأحذيتهم، فتسألها جارتها: «وعقولهم؟» لترد «براكسا»: «لسنا فى حاجة إلى عقولهم»، فيقمن النساء الثائرات على سلطة المجتمع الذكورى البطريريكى، وعلى فساد السلطة الحاكمة من الرجال، فتخطب «براكسا» المتنكرة فى ملابس الرجال فى الشعب قائلة: «إنه ليدمى قلبى أن أرى الفساد قد دبَّ فى جسم الدولة كما يدب الموت البطىء، وأن أرى الدولة قد ألقت بشئونها فى أيدى رؤساء لا يعنيهم من أمر الدولة غير أنفسهم ومن يحيط بهم من الأخصاء.. كلهم يرى الدولة دائرة ضيقة هم مركزها، ومحيطها الأنصار والأصدقاء، أما ما خرَج عن هذا المحيط فإن أبصارهم لا تستطيع أن تمتد إليه!.. إن ثورة النساء تحمل وجهًا مزدوجًا، فهى ثورة على انفراد الرجال بالحكم وذكورية هذا المجتمع الذى يحرم المرأة مزاولة حقوقها السياسية أسوة بالرجال، وهى كذلك ثورة على الحكم الفاسد والأنظمة الاستبدادية الشمولية، ورفض لنظام حكم الحزب الواحد المنتفع بخيرات البلاد؛ مما يحتفظ للتناول الدرامى للأسطورة بطزاجة القضية المتناولة، بتجدد إشكالية حدوثها، مع مرور الأزمنة، وتراوح الأمكنة.
غير أن استلهام «الحكيم» للأسطورة لم يقف عند شاطئ الأساطير اليونانية، فامتدَّ ليشمل الأساطير العربية، وحكايات القرآن الكريم؛ مفندًا المزاعم التى تُقصر «التراجيديا» على الغرب، وتزعم بعدم تواؤم الإسلام مع روح «التراجيديا»؛ كما فى مسرحيته «أهل الكهف» التى استلهم قصتها من حكاية وردت بالقرآن الكريم وكتب الرهبان عن نزوح وزيرين «مشلينيا» و«مرنوش» مع راعى أغنام «يمليخا» إلى أحد الكهوف؛ هربًا من بطش «دقيانوس» أحد ملوك الرومان الذى كان وثنيًّا يضطهد المسيحيين، ويستيقظون بعد سبات عميق دام ثلاثة قرون، يرسلون الراعى «يمليخا» لابتياع طعام لهم، فيعرفه أحد الصيادين من ثيابه الغريبة وهيئته، وما كان معه من عملة قديمة انقرضت، حتى تعرف المدينة مخبأهم ويقتادونهم إلى قصر الملك الذى كان مسيحيًّا، فاحتفى بهم لمعرفة الناس بقصة اختفائهم، وتكمن المفارقات فى عدم إدراك «أهل الكهف» الفارق الزمنى الهائل بين عصر عاشوا فيه مضطهدين وعصر انتقلوا إليه بعد هوة فاصلة لزمن متجمد استمر ثلاثة قرون، فمشكلتهم كانت مع «الزمن»، الذى أفنى كل صلة لهم مع الحياة التى عاشوها؛ فـلم يعثر «مرنوش» على أسرته التى زالت، أما «مشلينيا» فقد وجد من يظن أنها حبيبته «بريسكا» وقد نأت عنه؛ لأنها ليست هى، رغم أنها تحمل نفس اسم محبوبته «بريسكا» ابنة الملك الوثنى «دقيانوس»، وتشبهها أيضًا شكلًا، وترتدى نفس صليبها الذى أهداه «مشلينيا» لتلك التى شابهتها اسمًا وشكلًا، غير أن الزمن وقف حائلًا أمام «مشلينيا» فى التواصل مع تلك التى ظن أنها حبيبته.
وإذا كان الزمن كذلك لم ينسخ ذاكرة الشخوص، غير أن استحضار تلك الصور من ذمة عهود مضت فى عهود تالية قد يُحدث نوعًا من التصادم مع الحياة الجديدة؛ كما يبدو فى الحوار الدائر بين الرفيقين «مشلينيا» و«مرنوش»:
مشلينيا: أيها المسكين أنت لا تستطيع أن تتصور ولدك إلا كما رأيته آخر مرة. ومهما تسمع عن الثلاثمائة عام فهى كلمات وأرقام لا تغير شيئًا من صورة ولدك الصغير، تلك الصورة المنطبعة فى مخيلتك.
مرنوش: كفى هراء. كفى هراء.. ولدى قد مات ولا شىء يربطنى الآن بهذا العالم. هذا العالم المخيف. نعم صدق يمليخا. هذه الحياة الجديدة لا مكان لنا فيها. وأن هذه المخلوقات لا تفهمنا ولا نفهمها. هؤلاء الناس غرباء عنا. ولا تستطيع هذه الثياب التى نحاكيهم بها أن تجعلنا منهم.
إن مشكلة «أهل الكهف» هى الاغتراب فى الزمن، فأهل الكهف/ الإنسان لم يستطيعوا التواؤم مع الزمن مع تبدله، مهما اتخذوا من وسائل لمحاكاة أشياء الزمن الجديد ومسايرة معطياته.
فالحياة ترتبط بالذكرى والمشاعر وموجودات تتلاقى فى تواصل وتعاطف؛ مثلما يقرر «مرنوش» عدم جدوى حياته بلا أسرته؛ ابنه وامرأته:
مرنوش: حياة جديدة؟! ما نفعها؟ إن مجرد الحياة لا قيمة لها. إن الحياة المطلقة المجردة عن كل ماضٍ وعن كل صلة وعن كل سبب لهى أقل من العدم، بل ليس هناك قط عدم. ما العدم إلا حياة مطلقة.
تمتاز الجمل الحوارية لدى «الحكيم» بالتعالى على الموقف الحوارى وبمرونتها مع اتخاذها طابع الحكمة فى آن، فهى تستطيع الانسلاخ من موقفها الآنى، وحضورها المشهدى فى انسيابية سلسة، ليكون لها كيان مستقل كمثل سائر وكحكمة تتجاوز موقفها الدرامى وقابليتها لاحتماليات انطباقها وجواز تركيبها واندماجها فى عديد من السياقات الأخرى. إن حوار «الحكيم» يحمل فلسفة حياة تنطلق من مواقف جزئية؛ لتعبر عن رؤى كلية متجاوزة.
كتب الحكيم ثمانى روايات؛ منها روايتا «عودة الروح» التى كتبها أثناء بعثة أبيه له لباريس لدراسة الحقوق فى عشرينيات القرن الماضى، التى تدور أحداثها إبان ثورة ١٩١٩ ضد الاحتلال الإنجليزى لمصر، حول حب الشاب «محسن» وأعمامه الثلاثة لـ«سنية»، تلك الفتاة التى نالت قدرًا طيبًا من العلم وتعزف على «البيانو»، لكنها لم تنل كامل حريتها بعد، فتبدو «سنية» هذه رمزًا لمصر أو للمرأة المصرية التى نالت شيئًا من حقوقها وآخذة فى استكمال مشروعها النهضوى، وهى رمز أيضًا للحب حينما يكون قوة دافعة ومحفزًا، ويعد «الحكيم» برواياته الأولى؛ «عودة الروح» و«يوميات نائب فى الأرياف» و«عصفور من الشرق» شريكًا مؤسسًا مع عميد الرواية العربية «نجيب محفوظ» فى تأسيس فن الرواية العربية على أسس حديثة.
أما رواية «عصفور من الشرق» التى تعد تتمة لثلاثية روائية فيها الكثير من السيرة الذاتية للحكيم، فتمثل نقلة نوعية فى تاريخ الرواية العربية لما فيها من درامية وجدل رؤيوى وبناء شخوصها بما يحملونه هم ومواقفهم من شحنات رمزية، رواية تتشابك فيها خيوط الرومانسية بالواقعى والسياسى، والعاطفى بالأيديولوجى، فتدور حول حب «محسن» ذلك المصرى الذى أرسله أبوه للدراسة بفرنسا، فيقع فى حب «سوزى» بائعة التذاكر بأحد المسارح، فيلاحقها، ويتبادلان الحب، ثم يفترقان إثر رؤية «سوزى» لحبيبها السابق «هنرى». وتموج تلك الرواية بحالة من الجدل بين الثنائيات المتقابلة، فثمة جدل بين منظور الشرق ومنظور الغرب، بين الروحانية والمادية، الخيال والواقع، القلب والعقل.
وفى رواية «عصفور من الشرق» يكثّف العامل الروسى «إيفانوفتش»، صديق البطل، «محسن»، الفارق بين الغرب والشرق فى تصوّر كل منهما لمفهومَى «النبوءة»، و«اليوتوبيا»:
إنّ أنبياء الشرق قد فهموا أنَّ المساواة لا يمكن أن تقوم على هذه الأرض، وأنه ليس فى مقدورهم تقسيم مملكة الأرض بين الأغنياء والفقراء؛ فأدخلوا فى القسمة «مملكة السماء»، وجعلوا أساس التوزيع بين الناس السماء والأرض معًا: فمن حُرِم من الحظ فى جنة الأرض، فحقه محفوظ فى جنة السماء.. ولكن «الغرب» أراد هو أيضًا أن يكون له أنبياؤه الذين يعالجون المشكلة على ضوء جديد، وكان هذا الضوء منبعثًا هذه المرة من باطن الأرض، لا آتيًا من أعالى السماء.. هو ضوء العلم الحديث؛ فجاءنا نبينا «كارل ماركس»، ومعه إنجيله الأرضى: «رأس المال»، وأراد أن يحقق العدل على هذه الأرض، فقسم الأرض وحدها بين الناس، ونسى «السماء»، فماذا حدث؟.. حدث أن أمسك الناس بعضهم برقاب بعض، ووقعت المجزرة بين الطبقات تهافتًا على «هذه الأرض».
إن هذه الشهادة وتلك الرؤية لهذا العامل الروسى تُجلى التقابل الحاد بين الشرق الروحانى بأنبيائه الذين جعلوا الناس يأملون فى الجنة ويؤمنون ببعث الآخرة، وبين الغرب الرأسمالى وما أفرزه انعدام تحقق العدالة فى توزيع الثروات، ما أدى إلى ظهور الفكر الماركسى الذى قال بصراع على الثروات، مغفلًا الجانب الروحانى للإنسان؛ مما أدى إلى نشوء تصارع وحدوث تطاحن بين البشر بمختلف طبقاتهم على هذه الثروات المادية، فأسقطوا «السماء» من حساباتهم.
ولكن السؤال الذى يبدو ملحًا علينا ونحن بصدد معاينة المنظور الرؤيوى الذى تبناه الحكيم فى هذه الرواية: إذا كان الحكيم قد بدا مضادًا للرأسمالية الصناعية الجديدة التى يراها انتهازية ومستغلة ومستنزفة لجهود العمال، فلِمَ، فى اتجاه مباين لذلك، قد تبنى الحكيم عبر إيفانوفيتش الملحد اتجاهًا مضادًا للماركسية رغم عنايتها بحقوق الكادحين وطبقة البروليتاريا فى صراعها المقاوم انتهازية البرجوازية؟ أليس من بعيد الاحتمال أن يكون روسى ملحد كإيفانوفيتش حانقًا على الماركسية؟ وهل للروح الإيمانى والوازع الدينى للحكيم دور فى رفض روايته عصفور من الشرق للماركسية، رغم اتفاقها مع ما يؤمن به الحكيم وما يدعو له بتحقيق العدالة الاجتماعية والمادية فى المجتمع الرأسمالى الصناعى؟
كذلك كان «الحكيم» قاصًا، أخرج لنا ثمانى مجموعات قصصية، غلب على شطرها الأكبر الرمزية والتفلسف والفانتازيا؛ كما هو حال أغلب قصص مجموعة «أرنى الله»؛ وفى نفس القصة التى حملت المجموعة عنوانها، يطلب طفل من والده أن يريه الله؛ وكما يقول السارد: «ونهض الرجل.. ومضى لوقته وجعل يطوف بالمدينة يسأل الناس عن بغيته، فسخروا منه، فهم مشغولون عن الله ومشاهدته بأعمالهم الدنيوية.. فذهب إلى رجال الدين فحاوروه وجادلوه بنصوص محفوظة، وصيغ موضوعة.. فلم يخرج منهم بطائل.. فتركهم يائسًا»، فينقد «الحكيم» جمود الخطاب الدينى واعتماده على حفظ الطرح السابق دون تجديد، حتى يصل الباحث عن الله من ناسك أن رؤية الله تكون بمحبته.
غير أن الجانب الإبداعى الذى لم يلق حقه من إسهامات الحكيم هو نظمه لشعر ينتمى لجنس قصيدة النثر، نظمه بين العشرينيات والستينيات؛ مما يجعل للحكيم السبق والريادة فى كتابة «قصيدة النثر»؛ فيقول «توفيق الحكيم» الشاعر فى قصيدة له بعنوان «صلاة الفنان»: «إطار صورة ملونة/ يسمونه نافذة/ والرسم يتحرك فى الفضاء/ أشجار كأشباح البشر/ وسنابل من الناس تموج/ ونجم يلمع فى السماء كقطرة ماء/ والبحر أزرق كالصور»، فتبدو أشعار «الحكيم» ذات حس رومانسى مكتسية بروح صوفى شفيف، وعذوبة تأملية، ورمزية تصويرية.