.. وأضاءت أنوار المسرح
أمس الأول كان افتتاح المهرجان القومى للمسرح.. والمهرجانات المسرحية، بخلاف مهرجان السينما، لا تمارس عنفًا ظاهريًا على روادها، فلا حاجة لأى منا كمسرحيين أن يفكر فى تصميم فستان أو بدلة يلفت بها النظر، ولا أن يبدو بطلًا يخطف الكاميرات، ولا نكون مضطرين للتبختر على سجادة حمراء مقاومين حرجنا من كل العيون المصوبة كفوهات مسدس.
بالطبع كل الطقوس السابقة بها ما بها من الجمال، لكن فى الوقت ذاته بها الكثير من العنف الرمزى الذى تتحرر منه مهرجانات المسرح، لحسن الحظ.. لكنى طبعًا تهيأت بملابس جميلة لحضور الافتتاح، ولم أكن أطمح سوى لحضور طقسى فى مناسبة طقسية.. لمباركة المكرَّمين بشكل أساسى.. لكننى تفاجأت بمتعة فنية كبيرة عبر عرض افتتاح كان هو العرض الأهم لمهرجان مسرحى شاهدته منذ عقود.
عرض يدرك بوصلته وسياقه الموضوعى والجمالى والاحتفالى، كونه عرضًا مسرحيًا يقدم فى مهرجان قومى، «ونؤكد على القومى» للمسرح المصرى.. فى دورة تحتفل بالمخرج المسرحى، قدم لنا المخرج عصام السيد عرض «عزيز عينى» من إعداده عن كتاب «عزيز عيد طائر الفن المحترق»، وعزيز عيد كما قدمه العرض المسرحى هو أول مخرج مصرى يمارس مهنة الإخراج المسرحى بمنهجية علمية، وقت أن كان شائعًا المسرحيات الهزلية والاسكتشات.
وهو المخرج الرائد فى البحث عن هوية مصرية للمسرح المصرى والبعد عن المترجم والمقتبس، المخرج الذى أزعجت مسرحياته دومًا السلطة «الاحتلال والعثمانيين»، فبخلاف كثير من الوطنيين وقتها ممن رأوا الاصطفاف خلف الملك لمقاومة الاحتلال، إلا أن عزيز عيد كان موقفه الوطنى واضحًا ومعاديًا للطرفين، كما نتبين من أحداث العرض المسرحى، كيف واجه عزيز عيد مستويات الرقابة التى كثيرًا ما أوقفت مسرحياته، فأوقفت «العشرة الطيبة» التى تعاون فيها عزيز عيد مع سيد درويش وبديع خيرى، والتى احتوت الكثير من السخرية الاجتماعية والسياسية اللاذعة.
كذلك فى «يوليوس قيصر» التى أخرجها لفرقة فاطمة رشدى رفيقته حين كسر الحائط الرابع، وأخرج جنازة يوليوس قيصر كرمز للحكم الديكتاتورى من صالة الجمهور برمزيتها الواضحة، وفى حوار طريف وعميق، يهدده مسئول الرقابة بأنه سيحرر له محضر هدم، لأنه هدم الحائط الرابع.
لقد دلل هذا الحوار بتكثيف كبير على دور المسرح.. فالمسرح الحقيقى الذى يخرج من الجمهور ويتجه للجمهور ويتماس مع احتياجاته وهمومه وقضاياه الآنية.
ناقش العرض دور المسرح عبر حوارات عزيز عيد مع نجيب الريحانى وفاطمة رشدى ويوسف وهبى، الذى بدا منها أنه كان الأكثر جنونًا ومغامرة وتجريبًا وتقديسًا للحرية وانصرافًا عن الانشغال بالربح.
لذا فقد استحق عن حق لقب الأستاذ الذى أطلقته عليه فاطمة رشدى، ولقب المجنون الذى أطلقه عليه زملاؤه لجنونه وولعه بالمسرح والتجريب.. عزيز عيد الذى مات فى كواليس المسرح فجأة، بعد أن خلف أثرًا كبيرًا وأعاد توجيه دفة المسرح المصرى، استحق عن جدارة أن يكون بطل الليلة، ورمزًا ملهمًا للعديد من المسرحيين.
عالج عصام السيد مسيرة عزيز عيد دراميًا، معالجة قاربتها من واقعنا المسرحى الحالى إلى حد بعيد من حيث زيادة اللجوء إلى النصوص الأجنبية والتمصير، ومن حيث ممارسات الرقابة التى أضرت كثيرًا بالواقع المسرحى، ومن حيث التأكيد على ضرورة وأهمية المسرح كأداة وعى وتنوير فى مواجهة العنف والتطرف والإرهاب. وقدم عصام السيد مسرحيته فى قالب استعراضى غنائى، استطاع عبره أن يحافظ على الطابع الاحتفالى وأن ينقلنا زمنيًا لعصر مختلف بصوره وتكويناته التى نحن لها، تحية لإدارة المهرجان على سمو الاختيار، وتحية للمخرج الكبير عصام السيد ولكل المشاركين بالعمل الذى تبدت فى كل عناصره، البساطة والجمال والعمق: الشعر المفارق لمصطفى إبراهيم، واستعراضات شيرين حجازى، وأزياء مروة عودة، وديكور محمد الغرباوى، وتمثيل محمد فهيم، وحسن عبدالله، ومحمود الزيات، وابتهال الصريطى، وعلى كمالو.
فى النهاية أرجو إعادة تقديم العرض على خشبات المسرح المصرى عقب انتهاء المهرجان، ليلهم أجيالًا من الشباب والمسرحيين عبر قصة رائد مسرحى من طراز رفيع، وأستعير الدعوة التى أطلقها العرض فى الاستعراض الأخير: «نوروا المسارح هى هتنور عقول».