«سوء تفاهم».. هجائية مثقف مصرى لليسار الثقافى
تحمل المجموعة القصصية «سوء تفاهم» للكاتب الدكتور فهمى عبدالسلام، تشريحًا واسعًا للمجتمع المصرى خصوصًا فى فترة ما بعد «كامب ديفيد» وسياسات عصر الانفتاح الساداتى وآثارها التى ألقت بظلالها على المجتمع المصرى فى أنساقه القيمية والثقافية لعقود تالية ممتدة.
لكن تركيز الرؤية السردية فى نقد المجتمع بهذه المجموعة، يتوجَّه أغلبه إلى نقد اليسار المصرى بجناحيه السياسى والثقافى، خصوصًا فى حالة الزيف والادعاء والتظاهر بسمت المثالية وامتلاك كوادر وأفراد جماعات اليسار من سياسيين ومبدعين، حصانة خاصة وقيمة استثنائية فارقة، فقط لمواقفهم الأيديولوجية أكثر من امتلاك كفاءة نوعية وجدارة إنجازية.
يبدو أبطال قصص فهمى عبدالسلام من الذين خسروا رهاناتهم مع الحياة، كالمخرج السينمائى فى قصة «من أجل صورة خلَّابة» الذى أخفق فى مواعدة غرامية مع سيدة ظل يطاردها، أو ذلك الرجل الهزيل الذى خسر أمواله فى مراهنات سباق الخيل فى قصة «فى السباق»، أو الأديب «الموديوكر» الذى يعانى من أجل نشر قصصه فى قصة «الندوة». ثمة «سوء تفاهم» بين هؤلاء الأبطال فى قصص عبدالسلام وأقدارهم المعاندة وحظوظهم غير المواتية.
فى قصة «فى الندوة» يقدم الكاتب نماذج متعددة لشخصيات الوسط الثقافى والحياة الأدبية خصوصًا من كتَّاب اليسار، وما يستخدمه مثل هؤلاء الكتَّاب من جمل طنانة من أجل ادعاء امتلاك الجدارة الأدبية:
لم تكن ندوة الأديب الكبير رحيم حافظ هى الندوة الأدبية الوحيدة التى يحرص الأستاذ سالم على حضورها، فهو يحضر ندوات عديدة لأدباء ونقاد مشهورين، لكنه حريص بشكل خاص على ندوة الأديب الكبير منذ سنوات بعيدة، تحديدًا منذ أن أتى إلى القاهرة من ثلاثين عامًا، كان سالم وقتها ما زال شابًا ويعمل أمين معمل لمدرسة الزقازيق الثانوية، وقرر آنذاك أن يصبح أديبًا، فقد خلق للأدب، كما كان يعتقد، تحديدًا لكتابة «القصة القصيرة»، وقال فى أكثر من مناسبة «لا أعلم هل أنا من اخترت القصة القصيرة، أم أنَّ القصة هى التى اختارتنى»، ومرة أخرى قال «أنا لا أكتب القصة لكن اعترف أنَّ القصة هى التى تكتبنى»، وعندما فاته قطار الزواج وأصبح يقترب من الستين وسُئِلَ لماذا لم تتزوج؟، أجاب بأنه «تزوج القصة القصيرة».
فى تشكيل الكاتب لشخوص قصصه يأتى بملازمات الشخصية، كما فى المقولات «الأكلشيهية» الرنانة التى يرددها هذا الكاتب الذى يستعمل مثل هذه الجمل، سلاحًا لدخول المجال الأدبى، فى حالة من الادعاء التى يمارسها كثير من الكتاب متوسطى ومحدودى الموهبة، بأن الأدب هو الذى يكتبهم، ويكون الظهور فى المناسبات الثقافية وحضور الندوات الأدبية، وسائل لتأكيد الحضور بالتواجد فى الساحة الثقافية.
وتقدم قصة «فى الجاكس» نموذجًا لليسار الناصرى الذى استفاد بعض أفراده من المتاجرة بالشعارات الأيديولوجية فى تحصيل مكاسب كبيرة ماديًّا ومعنويًّا كعثمان المصيلحى الصحفى الناصرى الذى عمل بصحيفة لندنية:
فى أمسية شتوية باردة، وبينما كنت أجلس مع صديقى الثورى أمير الهندى، نحتسى الكابتشينو فى كافيتريا لاباس، كما اعتدنا، ذهب الصحفى الشاب عثمان المصيلحى إلى دورة المياه ليقضى حاجته، كانت المرة الأولى التى أراه فيها، وانتهز أمير الهندى الفرصة وراح يتحدث معى عنه:
- عثمان المصيلحى صحفى جيد جدًا وتقدمى وبالتحديد ناصرى، تعرف طبعًا تحفظاتى على الناصرية والناصريين، لكننا فى زمن الردة الساداتية نتحالف معهم خوفًا من التبعية والعمالة لأمريكا، وعثمان المصيلحى على المستويين الإنسانى والسياسى إنسان جيد جدًا.. وهو يعمل فى مؤسسة مساء النور الصحفية الكبرى.
- لكنك تقول إنه عائد من لندن.
- نعم عائد من لندن، حيث كان يعمل فى مجلة ٥٢ الناصرية ورئيس تحريرها السعداوى خضير، الناصرى الكبير والهارب إلى لندن، مجلة يصرف عليها القذافى.
يكشف الخطاب السردى فى بعض قصص عبدالسلام عن عوار بعض النماذج من الانتهازيين فى اليسار المصرى الذين تاجروا بأفكار عظمى ومبادئ أيديولوجية رنانة من أجل الصعود المادى والاجتماعى، كما يظهر البنية المعقَّدة لتركيب مجتمع النخبة الفكرية المصرى من اليساريين والقوميين العروبيين والليبراليين والصراع مع اليمين الساداتى، كما يكشف عن عمالة بعض أقطاب اليسار المصرى فترة ما بعد كامب ديفيد لصالح بعض الأنظمة العربية التى كانت معادية وقتها للنظام المصرى.
ولكون الكاتب أستاذًا فى كلية الطب، فإنَّه يلتقط حالات خاصة ونماذج غريبة من فساد الحياة الأكاديمية خلف أسوار الجامعة والمراكز الأكاديمية، كما فى قصة «حجرة الفئران» التى تكشف عن وجود بعض مراكز القوى فى مثل هذه المؤسسات الأكاديمية، من بعض العمال المهيمنين على مقاليد الأمور بإدارة بعض المراكز فى إطار منظومة مشوَّهة:
لم يكن أمامى من سبيل آخر، فقد كنت مضطرًا للتفاهم مع معذبى وجلادى، إنه حارس غرفة حيوانات التجارب فى كليتنا، ولأن حياتى وأحلامى وكل طموحاتى، كانت كلها تتوقف على الفئران البيضاء التى كنت أجرى عليها الأبحاث العلمية، لذا كنت مضطرًا لرشوة الوغد شمس، لكى أحمى فئرانى ومستقبلى الأكاديمى من شمس ومن ألاعيب شمس.
أشكو شمس؟، كان غيرى أشطر، فقد تحول شمس بالشراسة وبالإجرام وباللؤم وبالبلطجة إلى مركز من مراكز القوى، وهناك أوضاع كثيرة من هذا النوع فى بلادنا، وسيقول لك أهل الخبرة: «اتفاهم معاه أحسن لك»، فى النهاية ها أنا أجد نفسى مضطرا للدخول فى مفاوضات بذيئة مع شمس، الذى يبتسم ابتسامة الظفر الكريهة وهو يقول: «سأفصل لسيادتك جوز أنقح من اللى فات».
تكشف قصص فهمى عبدالسلام عن الخلل فى الكثير من المنظومات المجتمعية والتكريس لأوضاع جائرة وتقنين لأشكال من الفساد بأعراف توطنت فى المجتمع فى العقود الخمسة الأخيرة.