الحب فى زمن الكوليرا
يقول بابلو نيرودا فى إحدى قصائده:
إذا مت يا حبيبتى عيشى بعدى بكل قوتك.. وكأنك تسكنين فى بيت اسكنى غيابى.. منزل شفاف جدًا هو الغياب بحيث إننى أراك عبره تجتازين الأسوار، وأراكِ فى الجو تعلقين اللوحات.. منزل واسع جدًا هو الغياب بحيث إننى أنا الذى حرمت الحياة، إذا تألمتِ لأجلى يا حبيبتى سأموت من جديد.
عن هذا الحب الرحب الحر الذى طالما أنكرناه وتعالينا عليه وأزحناه وعزلناه كما نعزل المصاب بالكوليرا أو الكورونا، عن هذا الحب الواسع الفضفاض الذى يضع مصلحة وسعادة الحبيب قبل مصلحته، هذا الحب الذى يتسامى ويعلّى قيمة الروح فوق الجسد، هذا الحب الذى لا يسعى لحيازة أو امتلاك، الذى ينتصر عبر الحياة لا عبر الموت أو القتل، عبر البقاء لا عبر الزواج- عن هذا الحب تدور أحداث مسرحية «الحب فى زمن الكوليرا» المعدة للمسرح عن رواية جابرييل جارثيا ماركيز الشهيرة، والتى أعدها مينا بباوى، وأخرجها للمسرح المخرج سعيد المنسى، وأنتجها مسرح الطليعة- البيت الفنى للمسرح بإدارة المخرج عادل حسان، لتكون متنفسًا يعيدنا لإنسانيتنا ولمفهوم الحب الصادق لمدة ٩٠ دقيقة هى زمن العرض المسرحى.
تتناص المسرحية وتشتبك وتتداخل مع جماليات وقبح عالمنا المعاصر، وتبدأ وفقًا لإعداد مينا بباوى بالزوجة فيرمينا التى تسامح زوجها على خيانته الوحيدة لها قبيل وفاته بالسل.. فيرمينا التى خبرت الحب من ٥١ عامًا فعرفت السماح، ثم نعود إلى الخلف لنرى فيرمينا الشابة وقصة الحب التى جمعتها بفلورنتينو، عامل البريد الذى يرفضه الأب لورنزو «تاجر البغال»، ويرى أنه غير جدير بابنته ويفضل أن يزوجها للطبيب الناجح فوربينو.
فماذا فعل فلورنتينو بعدما تزوجت حبيبته بغيره؟ هل هددها وأسرتها بالقتل والتشهير؟ لا.. حين فارقته فيرمينا لم يفارقها هو، بل ظل على عهد الحب معها.. ظل يحاول أن يثبت جدارته بها، ويتشبث بالأمل دون أن يزعجها أو يفسد حياتها.. ظل ٥١ عامًا يدور حولها دون أن تدرى.. كون ثروة كبيرة وأسس شركة للسفن.. وحين علم بوفاة الزوج بعد ٥١ عامًا لم يستطع الصبر فتقدم لخطبتها.. فيرمينا التى كانت ما زالت تحبه رفضت لما رأت أن استعجاله فى عرض الأمر يسىء لكرامتها كامرأة ولكرامة زوجها الذى توفى لتوه... لكن يظل فلورنتينو متشبثًا بالأمل ويعاود إرسال الخطابات لحبيبته حتى ترضى بالزواج منه وتتحدى ابنتها التى تتهمها بالجنون، إذ ترغب فى الزواج فى مثل هذه السن.
تذهب فيرمينا مع فلورنتينو بعدما تجاوزا السبعين عامًا فى رحلة بحرية لقضاء شهر العسل، وتنتابه رغبة فى ألا يكون سواهما على السفينة، ويتضامن القبطان مع قصة الحب العظيمة التى انتصرت على الزمن والمجتمع، فيرفع علم الكوليرا على السفينة حتى يمتنع الركاب عن الصعود عليها فى مجاز مزدوج المعنى، فعند المحبين هذا هو الحب الذى يجتاحنا دون اختيار منا كوباء، وليس بيد أى منا أن يقرر مصيره سيكون الشفاء أم الموت حبًا، وهو الحب أيضًا الذى ينظر له غير المحبين بوصفه وباءً عليهم أن يبعدوه وينكروه ويجهزوا عليه.
اعتمد مينا بباوى فى إعداده للرواية على التكثيف والتركيز على خط درامى واحد من خطوط الرواية، كما عمل على تجريد الأحداث من كل السياقات الاجتماعية والتاريخية المتعلقة بالفترة الزمنية الواردة بالرواية الأصلية، باستثناء السياق الخاص بانتشار وباء الكوليرا فى هذا الوقت.
وقد استطاع المخرج سعيد المنسى أن يدمجنا عبر مشهدية خلابة يتوسطها القمر «قرص ضخم فى منتصف المسرح»، هذا القمر هو نور الحب وظلام العالم فى آن واحد، جعلنا نشعر كمتفرجين دومًا بأننا فى البراح- مساحة حرة مفتوحة تسمح لأرواحنا بالتحليق، وساعدت الإضاءة لعز حلمى، والتى اعتمدت بالأكثر على درجات الأزرق، على إدخالنا فى حالة من الاسترخاء، وكأنها تجهزنا بصريًا لتلقى تلك الجرعة من الحب، وكذلك جاءت الموسيقى لوليد الشهاوى التى دعمت هذه الحالة صوتيًا بحيويتها ونعومتها فى معظم اللحظات.
أجاد الممثلون فى تشخيص أدوارهم منتبهين إلى الفروق النوعية المتعلقة بعمر الشخصية، حيث أراد المخرج أن يبرز فعل الزمن فى شخصياته وتحولاتها بأن خصص لأداء كل شخصية اثنين من الممثلين ليؤدى واحد منهما الشخصية فى مرحلة الشباب ويجسد الآخر فعل الزمن فى الشخصية فأجادوا جميعًا فى إبراز نمو الشخصية جسديًا ونفسيًا: عصام الدين أشرف ومحمد فريد فى دور فلورنتينو، دينا السيد ونسمة عادل فى دور فيرمينا، أبانوب لطفى ومحمد صلاح فى دور أوربينو، كما أجادت شمس الشرقاوى فى دور العمة التى تدعم ابنة أخيها وتواجه قسوة الأب.
فى النهاية يظل الحب هو الطعم الذى لم تخبره ذائقتنا من قبل، هو الأرض التى لم تطأها قدمنا من قبل، هو اللون فى صورة باهتة، هو المعنى الأكثر ندرة فى عالم يحكمه الجنون، فإذا أردت أن تحلّق فى سمائه لمدة ٩٠ دقيقة اذهب إلى مسرح الطليعة وشاهد «الحب فى زمن الكوليرا».