«المربعات».. حين كتب الأبنودى الشعر لجمهور «السوشيال ميديا»
جاء استعمال عبدالرحمن الأبنودى قالب المربعات فى آخر تجاربه الشعرية مع ثورتى الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١ والثلاثين من يونيو ٢٠١٣، مواكبةً للمستجدات التقنية للعصر، فقد اختار الفضاء الإلكترونى الافتراضى مجالًا لكتابته ونافذة للإطلال على جمهوره عبر نافذة "تويتر"، فقد أعادت الفضاءات الرقمية هيكلة أبنية الإبداع عبرها، وبات الإيجاز فى الخطاب مَلْمَحًا رئيسيًا لذلك الإبداع عبر الوسائل التقنية الرقمية.
لقد أتت مربعات الأبنودى- رغم بناها المفردة والمتناثرة- كجدارية كبرى تتكون من وحدات فسيفسائية، تتعانق وتتداخل، تجمع بينها مشتركات كبرى وهموم رابطة؛ كحب الوطن والقلق عليه ومواجهة جحافل الظلام ومدافعة التطرف، وتغنيًا بالتنوير وتمسكًا بالأمل.
يبدو قالب المربعات أو الرباعيات أكثر ارتباطًا بشعر العامية، كقالب له جذور تراثية كمربعات ابن عروس، هذا القالب الذى استثمره شاعر العامية الكبير صلاح جاهين فى رباعياته الشهيرة ويتكوَّن من أربعة أشطر أو أسطر شعرية متساوية التفاعيل وموحَّدة أو ثنائية القافية، ويُستعمل لكثافته وسهولة تناوله وتدواله.
عاينت مربعات الأبنودى تحولات الوضع الثورى وتقلباته، فكانت تغريداته المربعة بمثابة دفتر أحوال الثورة المصرية، لا سيما فى مرحلة الاختطاف الذى تعرضت له بواسطة التيارات الراديكالية التى تحالفت مع فلول النظام السابق للإجهاز على الثورة، فينقل الأبنودى فى مربعاته خذلان الحلم الثورى:
ولا الدنيا ضحكت قصادنا
كما كنا مسترِجيينها...
ولا الريحة ريحة بلدنا
ولا دى الميادين بعينها!!
يحمل شعر الأبنودى نبض الروح الثورى بما يعايشه من أحلام وآلام، أفراح ومواجع، أمل ويأس، فتأتى تلك الرباعية الملتحفة بضمير المتكلم الجمعى تمثيلًا لصوت الوعى الجمعى الثورى لتعبر عن شعور بالإخفاق لعدم تحقق منشودات الثورة المرجوة، وهو ما اقترن بشعور بغربة البلاد وميادين النضال الثورى، فكأن إخفاق المسعى الثورى عن بلوغ مبتغاه قد أدى- فى نتيجة لازمة عنه- إلى افتقاد البلد رائحته وشعور الذوات بالاغتراب عن تلك الميادين التى كانت ساحة لنضالها الثورى، ويبدو تكرار النفى الغالب فى مستهل ثلاث جمل من تلك الرباعية علامة على الفقد وانتفاء الهويات الأصيلة للكينونات، بخلاف ما يمنحه النفى المكرور فى بدايات الجمل للشعر من إيقاع لافت، وهو سمة ملحوظة فى شعر الأبنودى، كما فى أغنية له غناها محمد ثروت:
ولا الغيوم هِربت
ولا النجوم قِربت
ولا الطيور شربت
من النبع البعيد
فتعمل بلاغة السلب الأثيرة لدى الأبنودى على ملاحقة الأحلام الهاربة وجلاء الهويات المسلوبة، وكذلك بيان أحوال النسخ التى قد تبدل من جوهر الكينونات.
وعبر شعر الأبنودى ثمة رابط للإنسان بالزمن، فأمسى الزمن علامة على حال البشر، وأمارة دالة على أوضاعهم، وشاهدًا على تحولاتهم:
وقع الورق والربيع ضجّ
وكرهوه فى ظهوره..
وامّا فتح بقُّه.. واحتجّ
سَبُّوه.. وداسوا زهوره!!
كثيرًا ما تسكب الصورة الأبنودية حمولاتها النفسية على الطبيعة وتلون الوجود بما يداخل موجوداته من مشاعر، فيمسى ما هو موضوعى قناعًا ومرآة عاكسة لما هو ذاتى، فالربيع- كما هو رمز للحياة والثورة- قد بلغه الضيق وتساقط ورقه، أمارة على ضعفه ووهنه، فما الربيع إلا قناع للذات الإنسانية التى تسلل إليها الضجر والسأم، ويبدو التقابل حادًا بين احتجاج الربيع، ومقابلة هذا الرفض الربيعى لاستلاب أوراقه بالسباب، ودهس أوراقه، فى إصرار على معاداة الحياة.
لئن كانت المعركة الكبرى التى واجهت المصريين، بعد وصول أصحاب التيار الدينى المتشدد للحكم، هى مواجهة ساتر القداسة التى حاول هؤلاء اليمينيون التحصن وراءها لدفع أى نقد يُوجَّه إليهم:
الفيل عَطَس فى المدن طفَّى مصابيحها
لا يعرف الفرق بين الذوق وبين الشم
بيبيع لنا جنة.. ما يملكش مفاتيحها
لون الأدان اتصبغ فيها بلون الدم!!
يعمل الخطاب الأبنودى على كشف عوار الفكر الراديكالى لجماعات الإسلام السياسى القائم على الإجهاز الغشيم على مراكز التنوير، هذا الفكر المعادى لحياة التمدُّن لأنّه مشبع بروح البداوة ووعيها المتخلف، فافتقد القدرة على التمييز، كما يكشف عن متاجرة أصحاب التيارات الدينية بمشاعر العوام ومصادرتهم لمصائرهم الوجودية بادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتكريس أوهام ربحان الجنة فى الآخرة لقاء طاعة الجماهير لهم، ليكشف الخطاب الأبنودى على عمل الخطاب الأصولى للجماعات الدينية على تزييف الوعى، واستعمال العنف وإراقة الدماء وبث الإرهاب فى سبيل تثبيت أركان حكمهم.
وعلى عكس متاجرة المتأسلمين بالدين، فقد تخلوا- فى فترة توليهم الحكم- عن مناصرة الفقراء أو السعى للنهوض بأحوالهم:
الراجل أبولحية بيندد وبيهدد
حسيت كإن السما راح تنطبق ع الأرض
عمَّال يكفَّر فى أطهر ناس.. ويتشدد
مش مستفزه فقير جعان نايم فى البرد!!!
يكشف الخطاب الشعرى عن المفارقة بين تشدد هؤلاء الذين يدعون التدين- لا سيما التدين الشكلى- واستباحتهم تكفير البشر، فى مقابل عدم مبالاتهم- وهم فى الحكم- برفع مستوى معيشة الفقراء الذين يعانون الجوع والبرد، وهو ما يفضح زيف أصحاب الشعارات الدينية التى يتقنعون خلفها فئة تتسم توجهاتها وأفعالها بالتناقض.
ويتناول الأبنودى فى مربعاته الطائفية التى طالت الوطن جراء المد الراديكالى للأصولية الدينية:
«نصرانى» صاحبى. وكنا بنقسم اللقمة
حارب معانا العدو. لُه قدنا فى النصر
اللى نَجَح فى انتزاع الفجر من العتمة
كيف تقدروا تنزعوا حقه فى كلمة مصر!!؟
يبدو انحياز الخطاب الأبنودى لقيم المواطنة فى مواجهة محاولات بث الفرقة الهدامة بين أبناء الوطن الواحد، ويتكرر بشكل ملحوظ فى معجم الأبنودى ثنائيات مثل النور فى مقابل العتمة والفجر والنهار فى مقابل الليل فى تمثيل لصراع قوى الخير فى مقابل الشر والتنوير فى مقابل الظلام، كما تكثر فى مربعات الأبنودى الاستفهامات الاستنكارية كما فى: "كيف تقدروا تنزعوا حقه فى كلمة مصر؟!" تجسيدًا لغضب الوعى الجمعى المستنير من التمادى الكريه لتطرف الإخوان والتيارات المتشددة وانتهاكهم قيم وحقوق المواطنة عند توليهم الحكم.