إرهاب فى النرويج.. منحنى مخاطر لأهداف جديدة
في الساعات الأولى من السبت الماضي، تلقت الشرطة النرويجية بالعاصمة أوسلو العديد من اتصالات الاستغاثة والإبلاغ عن وجود إطلاق كثيف للنيران بـ"حانة لندن"، المعروفة، حسب موقعها على شبكة الإنترنت، بأنها أكبر مكان لتجمع "المثليين" بالعاصمة النرويجية.
السبت 25 يونيو يوم وقوع الهجوم، هو يوم مخصص لاحتفال المثليين بالمدينة، وكان هناك إعلان محلي مسبق عن مسيرة احتفالية تخترق العديد من شوارع أوسلو، كما هي العادة السنوية، وجرى إلغاؤها فيما بعد تلك الحادثة.
وصول رجال الشرطة السريع إلى موقع الحادث ساهم إلى حد كبير في تقليص عدد الضحايا، وتمكنت بمساعدة المارة من إلقاء القبض على مرتكب الهجوم، البالغ من العمر «42 عاما»، الذي وصل قبلا إلى موقع الحانة وهو يحمل حقيبة أخفى بداخلها سلاحين استخدمهما في الهجوم «مسدس، وبندقية آلية»، وبدا من إطلاقه الكثيف للنيران بشكل عشوائي داخل الحانة وأمامها وفي الشارع المجاور لها أنه كان يستهدف إيقاع أكبر عدد من الضحايا، فهناك نادٍ مجاور يرتاده المثليون أيضا، وافترض المهاجم أن كافة الأشخاص الموجودين أمام الحانة والنادي وبينهما هم محل استهدافه.. أسفر الهجوم المسلح عن مقتل شخصين وإصابة أكثر من 20 شخصا آخر، غالبيتهم في حالة خطرة جراء إصاباتهم بطلقات نارية من مسافة قريبة للغاية، هذا الشخص «متوسط العمر» يحمل الجنسية النرويجية ومن أصول إيرانية، ومعلوم لدى الأجهزة الأمنية منذ 2015 وفق ما صرحت به بعد إلقاء القبض عليه في مكان الهجوم، وهذه جميعها إشارات لافتة تثير الكثير من علامات الاستفهام !
المدعية العامة النرويجية "كريستيان هالتو" فسرت البيان الذي صدر من الدائرة الأمنية مباشرة بعد إلقاء القبض على المتهم، معلنا عن أن الجهاز الأمني يتعامل مع الحادث كونه عملا إرهابيا، باعتبار أن توجيه تهمة الإرهاب للمشتبه به "مبررة" على أساس عدد القتلى والجرحى ومسرح الجريمة، واستنادا إلى تقييم شامل يشير إلى أن المتهم كان ينوي بث الخوف الشديد بين السكان.. إلغاء المسيرة جاء بنصيحة من الشرطة خشية أن تكون محل استهداف، برغم ذلك سار مئات الأشخاص بالقرب من مكان الحادث في وقت لاحق من يوم وقوع الهجوم، وهم يهتفون: "نحن هنا، نحن مثليون، ولن نختفي"، كما أعلن عن قرار استثنائي برفع مستوى التأهب ضد الإرهاب في النرويج إلى أعلى مستوياته، علما بأن جهاز الاستخبارات ذكر أنه ليس لديه أي مؤشر على احتمال وقوع مزيد من الهجمات، الجهاز الأمني أيضا ذهب إلى إصدار توصية عاجلة بحمل أفراده السلاح كإجراء احترازي لحين إشعار آخر، لاسيما أن رجال الشرطة في تلك الدوائر غير مسلحين، فالمعلوم أن معدل الجريمة في النرويج، البالغ عدد سكانها «5.4 مليون نسمة»، منخفض بشكل كبير، مقارنة بالكثير من بلدان غرب أوروبا.
بالنظر إلى ما سبق قد يكون من الواجب الوقوف أمام بعض النقاط والإشارات الأساسية، فبداية التوصيف العام للهجوم ومنفذه تضعنا أمام حالة نموذجية لنمط "الذئب المنفرد"، وهو النمط الذي اعتمده تنظيم "داعش" منذ العام 2014 تقريبا، لكن عديد من الوقائع- وهذه إحداها- تكشف أن ظاهرة الذئاب المنفردة تجاوزت أسوار التنظيم، ولم تعد حصرية في ارتباطها به، فالأصول الإيرانية للمهاجم تستوجب مزيدا من التدقيق، خاصة الأرجح أنه لن يكون منتميا لداعش، إنما ذهب في تنفيذه الهجوم إلى استنساخ النمط الداعشي من أجل ارتكابه جريمة تتشابه إلى حد بعيد مع الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها باريس عام 2016.. بالنظر إلى الأصول الإيرانية أيضا تبرز دلالة لافتة تحمل متغيرا جديدا، فكما هناك حالة انفصال عقائدي افتراضي بين مهاجم ينتمي للطائفة الشيعية وبين تنظيم داعش، جعلت نفي انتمائه له أقرب، هناك فعل "عنف شيعي" يبرز على المسرح الأوروبي للمرة الأولى، وهو تحول عن عقيدة العمل الشيعي المسلح، الذي التزم سابقا باتخاذه الدول التي يعد المكون الشيعي فيها يمثل نسبة سكانية واضحة مسرحا أساسيا له، وظل تركيزه منصبا تجاه مسارات عنف متباينة لا يبدو فيها "الهدف الغربي" واضحا ولا يمثل أولوية، إلا في حال مثّل تهديدا لنفوذه أو لمساحات استحواذه كما في النموذج العراقي.
لذلك، حتى تتكشف تفاصيل تحقيقات السلطات الأمنية النرويجية، سيظل أهم الأسئلة المثارة هو ما يتعلق بانتماءات المهاجم ومرجعياته الفكرية، هل لها ارتباط مباشر بعشرات الكيانات الشيعية المسلحة؟، وفيما إذا كان هناك تكليف مباشر من أحدها بالتحرك على الأراضي النرويجية، أم أن الأمر يقتصر على استلهام شخصي من المهاجم للحالة؟، كما تبين سابقا في وقائع مماثلة لـ"ذئاب منفردة" تنتمي فكريا فقط لداعش، وبادرت ذاتيا لارتكاب جرائم عنف تماهيا مع النمط الداعشي المعلن، وفي هذا المجال سيمثل "هدف الهجوم" هو الآخر متغيرا لافتا، من جملة مستجدات هذا الحادث، باعتبار الهجوم المسلح على "المثليين" بنمط العمل الإرهابي لم يظهر قبلا في أهداف الذئاب المنفردة، أو المجموعات الإرهابية التي اختارت قبلا طوال السنوات الماضية قائمة من الأهداف المتنوعة، وصلت فيها مرات داخل المدن والبلدات الأوربية أو الغربية بوجه عام حتى للطعن العشوائي بأسلحة ساذجة فقيرة.. لكن محاولة استدعاء "بعد أخلاقي" كمسبب لاختيار هدف من هذا النوع يفتح الباب أمام حالة خلط واسعة فيما يتعلق بالدوافع، التي ظلت تقتصر طوال الوقت على إيقاع أكبر قدر من الضحايا دون النظر إلى طبيعة هؤلاء الضحايا، كما في حال جريمة "الدهس العام" والشامل التي وقعت بمدينة "نيس" الفرنسية باستخدام شاحنة.
القضايا الاجتماعية والأخلاقية الخلافية في الدول الأوروبية خصوصا؛ لا حصر لها بين سكان البلدان الأصليين وبين أجيال من المهاجرين أو أصحاب الجنسيات والأصول الأخرى، العربية والإفريقية أو الآسيوية، مثل حالة الهجوم الأخير "إيران".. كما يبرز عامل مؤثر آخر يضيف مزيدا من العبء على عملية القراءة والتحليل، له علاقة بالمرحلة العمرية للجاني، فهو في تلك الحالة يحمل الجنسية النرويجية، مما يؤكد أنه قضى عقدا على الأقل كمواطن أو وُلد هناك قبل حصوله على الجنسية، فهل تلك السنوات لم تسهم في عملية إدماجه بشكل أو بآخر، فهو حتى وإن كان يرفض مسألة حرية "المثلية" الجنسية فليس طبيعيا التعبير عن هذا الرفض بإطلاق النيران.. الذي يستوجب التوقف والانتباه؛ أن هناك عشرات من القضايا الخلافية التي تمثل أبوابا جديدة تفتح أمام استخدام القوة المسلحة إزاءها، على سبيل المثال قضايا استيعاب وقبول اللاجئين، وطرق تعاطي الدول المستقبلة لهم مليئة بالتفاصيل المشينة في الحقوق والسياسات التي تراكم طوال الوقت فائضا من السخط والغضب، وترتب تعاطفا من أصحاب الجنسيات أو الأصول المتشابهة أو المتقاربة.. فهل سيمضي منحنى أخطار استخدام العمل المسلح أو الفعل الإرهابي تجاه أهداف رخوة جديدة لم يجر الاحتراز لها حتى الآن على الأقل؟