احتفالية العندليب 4
حليم والسينما.. أنصفها وظلمته
قدم 16 فيلمًا للشاشة الكبيرة.. وشارك بالغناء وكضيف شرف فى 5 أفلام
ظهر فى غالبية أعماله بدور الحبيب المضحى بكل نبل فى سبيل عشقه
كؤن ثنائيات ناجحة مع جميلات الشاشة وفضل النابلسى فى دور "السنيد"
مواصفاته الشكلية والجسدية منعته من تنويع شخصياته والاقتراب من أدوار الشر
هدفه الأساسى من السينما كان تعزيز مكانته كمطرب أكثر من إثبات قدراته كممثل
١٦ فيلمًا قدمها عبدالحليم حافظ للسينما، هى: "لحن الوفاء، ليالى الحب، أيام وليالى، أيامنا الحلوة، موعد غرام، دليلة، بنات اليوم، فتاة أحلامى، الوسادة الخالية، شارع الحب، حكاية حب، البنات والصيف، يوم من عمرى، الخطايا، معبودة الجماهير، أبى فوق الشجرة". كما شارك بالغناء فى أفلام: "بائعة الخبز، بعد الوداع، أدهم الشرقاوى"، وحل ضيفًا للشرف فى فيلمى: "إسماعيل يس بوليس حربى، قاضى الغرام". بمراجعة أولية سنجد عاملًا مشتركًا بين قصص أفلام "العندليب" وحياته الشخصية، وهى فكرة الصعود من القاع إلى القمة، أو التحقق بشكل عام، سواء كان ذلك التحقق من خلال مكانة أو شهرة أو ارتباط عاطفى ببطلة من مستوى اجتماعى ومادى أعلى. نجد ذلك فى عدة أفلام، منها: "شارع الحب، معبودة الجماهير، ويوم من عمرى". وفى تصورى يحسب ذلك إلى ذكائه، لأنها تيمة ذات مصداقية لدى الجمهور لارتباطها بحياة المطرب نفسه، ومن ناحية أخرى مداعبة لأحلام الطبقة الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، التى كانت شديدة الاتساع وقتها، بحيث يخاطب تطلعاتهم الاجتماعية والمادية.
حب وتضحية
بطابع رومانسى خرج كل أفلامه يتضمن خطًا عاطفيًا أساسيًا، فهو صحفى مبتدئ يرتبط بفتاة ثرية فى "يوم من عمرى"، وممثل ناشئ يحب نجمة سينمائية كبيرة فى "معبودة الجماهير"، ومطرب مغمور يقع فى حب فتاة أرستقراطية فى "شارع الحب".
المشترك دائمًا هو اكتمال شخصية البطل بكل ملامحه، فهو المحب النبيل الذى يضحى من أجل حبه، ويحارب فى سبيله حتى ينتصر له فى نهاية المطاف، وهو ما كان يثير إعجاب الجمهور الذى يحب أن يرى فى مطربه المفضل الصورة المثالية للعاشق المتفانى فى حبه حتى النهاية.
التضحية كان لها وجود كبير فى أفلام "حليم"، فهو فى "يوم من عمرى" يضحى بالسبق الصحفى فى سبيل حبه، والإبقاء على ثقة فتاته "نانا- زبيدة ثروت"، وفى "معبودة الجماهير" و"شارع الحب" يضحى بالحب فى مقابل الكرامة، قبل أن تتكشف الحقيقة ويقرر العفو عن حبيبته "سهير- شادية"، أو "كريمة- صباح". كما يضحى فى "أيامنا الحلوة" بأنانيته كحبيب، مقابل حياة "هدى- فاتن حمامة"، حتى إن كان ثمن ذلك زواجه من ابنة عمه "بخاطرها" التى لا يحبها.
ثنائيات ناجحة
جمعته قصص الحب فى كل الأفلام ببطلة لعب دورها عدد من ألمع نجمات التمثيل فى ذلك الوقت، من بينهن: "شادية، فاتن حمامة، لبنى عبدالعزيز، مريم فخر الدين، نادية لطفى، زبيدة ثروت، صباح".
كان مقصودًا بلا شك أن يختار "حليم" بطلات أفلامه على قدر عال من الجمال والجاذبية، وهذا جزء من المداعبة الذكية للجمهور، الذى يمنى نفسه بأن يكون مكان البطل. أيضًا هو اكتمال لفكرة قصة الحب مثالية المضمون والشكل، بوجود البطل الوسيم الجذاب، والبطلة الرقيقة الجميلة.
قدم "دويتو" مع شادية فى ٣ أفلام، هى: "دليلة، لحن الوفاء، ومعبودة الجماهير"، شكّلا من خلالها ثنائيًا متناغمًا ومحببًا، وقدما عددًا من أشهر الدويتوهات الغنائية، مثل "حاجة غريبة" وغيرها الكثير.
قدم أيضًا ثنائية مع فاتن حمامة فى أفلام: "أيامنا الحلوة، وموعد غرام"، ونادية لطفى فى: "الخطايا، وأبى فوق الشجرة"، إلى جانب فيلم واحد مع كل من: لبنى عبدالعزيز وزبيدة ثروت وإيمان وصباح.
كما كان يفضل وجود عبدالسلام النابلسى فى الدور الثانى كصديق، فى أفلام مثل: "يوم من عمرى، فتى أحلامى"، إلى جانب أحمد رمزى، الذى كان وجهًا جديدًا فى "أيامنا الحلوة"، قبل أن يشاركه بطولة فيلمى "بنات اليوم" و"الوسادة الخالية"، علاوة على حسن يوسف الذى شاركه فيلم "الخطايا".
الغناء أولًا
لم يتنوع حليم كثيرًا فى أنماط الشخصيات التى قدمها فى السينما، ربما كنا لنكتشف مساحات أوسع فى قدراته كممثل لو فعل ذلك، فلم نره فى أدوار الشر مثلًا، أو "ابن البلد".
أتصور أن لذلك عاملين رئيسيين، الأول هو مواصفاته الشكلية التى فرضت عليه اختيارًا محددًا من الأدوار، من حيث وجهه المنحوت وجسده الضئيل ونبراته المفعمة بالشجن، والثانى هو أن الهدف بالنسبة له من دخول السينما هو تعزيز مكانته كمطرب أكثر من إثبات قدراته كممثل، فصورة المحب المثالى الحاصل على تعاطف الجمهور تعزز صورته لدى الجمهور كمطرب يغنى للحب بلا شك، وهو ما يؤكده عدم خلو أفلامه من الأغانى.
ربما يحسب ذلك إلى ذكاء "حليم" أيضًا، فهو متأكد أن جمهوره يعشق فيه المطرب بالأساس، وبالتالى سيكون من غير المقبول بالنسبة لهم مشاهدة فيلم لا يتضمن أغانى يشدو بها مطربهم المفضل، ولا يعيبه ذلك التوجه بالطبع، لكنه فى النهاية حرمه من إثبات قدراته كممثل بشكل أكبر، بسبب عدم تخليه عن فكرة أنه مطرب يمثل.
قبلات حُلم
فضّل "العندليب" طوال مشواره السينمائى الابتعاد عن التابوهات المحظورة أو المناطق الشائكة، باستثناء آخر أفلامه "أبى فوق الشجرة"، للمخرج حسين كمال والمؤلفين إحسان عبدالقدوس وسعد الدين وهبة ويوسف فرنسيس، فقد طرق "حليم" من خلاله على أبواب تابو الجنس، الذى قدمه بشكل رآه البعض خارجًا ومبالغًا فيه.
وأرجع كثيرون نجاح الفيلم بشكل كبير فى شباك التذاكر إلى هذا "التابو"، الذى جعل الفيلم يُعرض فى السينمات أكثر من ١٣ شهرًا، قبل أن يظل ممنوعًا من العرض تليفزيونيًا لفترة طويلة نظرًا لسخونة المشاهد بين "حليم" وبطلتى الفيلم، سواء ميرفت أمين التى حلت محل زيزى مصطفى ونجلاء فتحى، أو نادية لطفى التى تم اختيارها بدلًا من هند رستم وسعاد حسنى. ولجأ بعض الفضائيات فى فترة من الفترات إلى حذف عدد كبير من هذه المشاهد الساخنة، بهدف استساغة جمهور التليفزيون الفيلم.
الطريف هو حرص الناس فى وقت عرضه سينمائيًا على معرفة عدد القبلات التى تتضمنها الأحداث، وظل ذلك محور حديث الجمهور وقتها، وكان الهتاف يعلو فى دور العرض عند كل قبلة جديدة لبطلتى الفيلم، التى كان لإحداهما وهى الفنانة نادية لطفى خلاف كبير مع عبدالحليم حافظ، استمر تقريبًا طوال وقت التصوير.
الفيلم يحكى عن "عادل- عبدالحليم حافظ"، الطالب الجامعى الذى يقرر قضاء إجازته الصيفية لدى أقاربه، يستقبله صديقه "خالد- فتحى عبدالستار"، والذى يقيم له حفلًا يلتقى من خلاله بـ"آمال- ميرفت أمين"، فيقضى معها بصحبة أصدقائه وقتًا مرحًا على البحر.
تُبدى "آمال" تخوفًا من التقرب إلى "عادل"، بناء على تحذيرات والديها، مما يثير غضب "عادل"، الذى يلتقى صديقه "أشرف- سمير صبرى"، فيصطحبه الأخير إلى "كباريه"، وهناك يتعرف على الراقصة "فردوس- نادية لطفى"، التى تُعجب به وتصطحبه ليقيم فى منزلها، مما يؤدى إلى مقاطعة أصدقائه له، نظرًا لقبوله العيش على حساب راقصة، على حد تعبيرهم.
يقرر "عادل" ترك "فردوس"، خاصة بعد مشاهدته محاولاتها ابتزاز معجبيها، ومع تخلى أصدقائه عنه يعود إلى منزل "فردوس"، حتى يحضر والده "كمال- عماد حمدى" ليعيد ابنه إليه ويخرجه من دائرة الراقصة، التى تدفع زميلتها "محاسن- نبيلة السيد" لإيقاع "كمال" فى علاقة عاطفية معها، وهو ما تنجح فى تحقيقه بالفعل، ليقرر "عادل" إنقاذ والده بدعم من أصدقائه، الذين ينجحون فى استرداد صديقهم لنفسه ولحبيبته "آمال".
شجرة النزوات هى ما قصدها إحسان عبدالقدوس فى عنوان الفيلم، والتى يتسلقها الأب ليظل عالقًا عليها بدلًا من ابنه، بعد توريطه فى العلاقة بـ"محاسن"، التى جاءت من بوتقة الخطيئة الممثلة فى "فردوس"، كما أن بها رمزية إلى الشجرة التى دفعت "آدم" لمخالفة الأمر الإلهى بعدم الاقتراب منها أو تناول ثمراتها، قبل طرده من الجنة.
إعادة اكتشاف
امتاز فيلم "أبى فوق الشجرة" بصورة مبهرة وألوان زاهية تتماشى مع روحه ومضمونه، كما تميزت الاستعراضات التى ظهرت فيه بسخاء الإنتاج وقتها، فالصورة فى أغانى هذا الفيلم تعتبر مميزة للغاية.
بل إن البعض يؤكد أسبقية المخرج الكبير حسين كمال فى صياغة الأغانى المصورة بصريًا قبل ظهور ما أطلق عليه الـ"فيديو كليب" فيما بعد، فقد شاهدنا استعراضًا يقدم على الشاطئ لأول مرة بتناغم حركى ممتع، من خلال أغنية "قاضى البلاج"، تأليف مرسى جميل عزيز، وألحان منير مراد.
كما قدم صورة أخاذة فى أغنية "الهوى هوايا"، تأليف عبدالرحمن الأبنودى وألحان بليغ حمدى، والتى صُورت خارجيًا فى لبنان، ولعبت دورًا كبيرًا فى الدعاية للمناطق الأثرية هناك، مثل "صخرة الروشة" وغيرها. كما قدم صورة حالمة وغير مسبوقة فى أغنية "يا خلى القلب"، تأليف مرسى جميل عزيز وألحان محمد عبدالوهاب.
يبدو "حليم" الممثل فى هذا الفيلم أكثر نضجًا، ويمر بصراع حقيقى ربما أكثر عمقًا وتعقيدًا مما مرت به شخصيات باقى أفلامه، فهو يتشتت هنا بين الحب والغواية، ما تطلب نمطًا آخر فى الأداء، لا شك أنه أكثر صعوبة، بعد أن اعتمد فى أفلامه السابقة على بساطة وتلقائية الأداء الذى امتاز بصدق وتمكن.
وعبر الفنان حسن يوسف عن انبهاره بقدرات "حليم" التمثيلية، أثناء مشاركته له فيلم "الخطايا"، مؤكدًا امتلاكه إمكانات وصدقًا ربما لا يمتلكه الكثيرون ممن درسوا التمثيل فى أكاديميات ومعاهد متخصصة.
ولا نستطيع أن نتجاهل تمكن المخرجين الكبار الذين تصدوا لإخراج أفلام "حليم"، أمثال بركات وصلاح أبوسيف وعزالدين ذوالفقار. ويحسب لـ"حسين كمال" تحديدًا قدرته على إدارة "حليم" الممثل ومساعدته على إخراج أفضل ما لديه، تمامًا كما أدار نادية لطفى وقدمها فى دور الراقصة وفتاة الليل، بعد عدد كبير من الأدوار التى قدمت من خلالها دور الفتاة الحالمة البريئة.
إعادة اكتشاف "حليم" نفسه لقدراته التمثيلية دفعته للتفكير فى تقديم أفلام لا يُغنّى من خلالها، ضمن عدد من المشاريع السينمائية التى لم يمهله القدر لتنفيذها.
فقد كان يخطط لإعادة تقديم فيلم "رصاصة فى القلب" لأستاذه محمد عبدالوهاب، لكن برؤية جديدة، بالإضافة إلى فيلم مأخوذ عن رواية "لا" تأليف مصطفى أمين، وفيلم آخر كان يحمل اسم "وطالت الأيام"، حملت اسمه اللافتات الدعائية وقتها بالفعل، لكن تم تغيير اسمه قبل أن يُلغى تنفيذه، بالإضافة إلى مشروع آخر كان يخطط للتعاون فيه مع المخرج يوسف شاهين.
ظلم مضاد
كمحصلة نهائية زخرت أفلام "حليم" بعدد كبير من أفضل الأغانى التى قدمها فى مشواره الغنائى وما زال الناس يحبونها ويرددونها حتى الآن، مثل: "نعم ياحبيبى، بلاش عتاب، جبار، قولى حاجة، بأمر الحب، أبوعيون جريئة، وحياة قلبى، حلو وكداب، توبة، تخونوه، كل كلمة حب".
كبار المبدعين الذين صنعوا له تلك الأغانى كان لهم دور كبير فى تحقيق خلودها، سواء الشعراء أمثال مرسى جميل عزيز، مأمون الشناوى، حسين السيد، فتحى قورة، محمد حمزة، عبدالرحمن الأبنودى، أو الملحنين أمثال: عبدالوهاب، محمد الموجى، كمال الطويل، محمود الشريف، منير مراد، بليغ حمدى.
لكن اختيار تلك الأغانى يُحسَب فى النهاية لمغنيها، الذى صنع ذكاء اختياراته وجودتها تاريخه الخالد بيننا حتى الآن، إلى جانب دفء صوته وصدق أدائه بالطبع، ثم ذكائه فى إدارة علاقاته الاجتماعية واختيار المحيطين به الذين شملوا كبار كتاب وصحفيى ومفكرى العصر، خاصة الكاتب الصحفى الكبير كامل الشناوى، والموسيقار محمد عبدالوهاب، وهو ما كان له أعظم الأثر فى بناء وعيه وقدرته على اختيار أعماله وصناعتها.
عامل كبير أيضًا فى نجاح أفلام "حليم" وقوة وتماسك أغلبها، هو اختيار مخرجين متمكنين أمثال: عزالدين ذوالفقار، حلمى رفلة، حسن الإمام، حسين كمال، عاطف سالم، بركات، صلاح أبوسيف، بالإضافة إلى كبار الكتاب أمثال: يوسف جوهر، إحسان عبدالقدوس، على الزرقانى، يوسف السباعى وسعد الدين وهبة. ليس غريبًا إذن أن يكون النتاج مجموعة من الأفلام التى لا تُنسى، إلا أن ظلمًا مضادًا كان فى انتظار "العندليب"، ففى الوقت الذى نرى السينما العالمية تحتفى بمطربيها ومطرباتها بتقديم أفلام شديدة التميز عن حياتهم ومشوارهم، مثل ألفيس بريسلى، إديت بياف، داليدا، فريدى ميركورى، جاك وإيلود بلوز، جونى كاش، براين ويلسون، راى تشارلز، جون لينون، فلورنس فوستر جينكينز، ولالى أندرسون، لم تقدم السينما المصرية سوى فيلم واحد عن المطرب الكبير هو "حليم" للمخرج شريف عرفة.
هذا الفيلم شابه الكثير من العيوب فى السيناريو والتجسيد، نظرًا للظروف الصحية الحرجة التى مر بها بطل الفيلم أحمد زكى وقت التصوير، قبل أن تحول وفاته دون استكمال عدد كبير من المشاهد، ما أربك صناعه، وأدى فى النهاية إلى نتيجة كان ينبغى الخروج بأفضل منها كثيرًا، وهو ما يجب أن يُعالج بإنتاج أفلام جديدة تعرض مشوار هذا الفنان بشكل متقن يليق بتاريخ وقيمة عبدالحليم حافظ.