الديوان المجهول لـ«عبدالرحمن الأبنودى»
مع سطوع نجم بعض أعمال المبدع بشدة تطغى أحيانًا على نجوم أخرى ليس لأنها الأجمل أو الأفضل، ولكن لظروف أخرى كأسبقية السطوع أو لأنَّ بعض النصوص الأدبية تبدو إشعاعاتها الجمالية أنسب لذائقة التلقى وأقرب نسبيًّا إلى ما هو مستقر.
ويبقى ديوان «الفصول»، الذى كتبه شاعر العامية الكبير عبدالرحمن الأبنودى، فى الفترة التى أعقبت هزيمة يونيو ١٩٦٧، وحتى العام ١٩٧٠، عملًا مهمًا ونصًا فارقًا فى إبداع الأبنودى وشعر العامية عمومًا، لكونه يمثِّل تعبيرًا جماليًّا عن صدمة ما بعد يونيو ٦٧، وانعكاس ذلك على الإنسان المصرى ليس فقط فى تفكيره فى تلك الهزيمة المريرة وحسب وإنَّما أيضًا فى تأملاته حول الحياة والوجود.
بالطبع، يحيل العنوان، «الفصول»، إلى دورة الزمن وما تعنيه بالأحرى من سطوة الزمن، ولكن أيضًا، تلوح فى ظلال المعنى، «الفصول»، فى المفهوم الشعبى بظلالها السلبية التى قد تعنى الأفعال الضارة والأقدار السلبية، كأنْ يقال: فلان عمل معى «فصل» أو له معى «فصول»، أى أفعال تحمل سمة الغدر ومخالفة رياح الواقع لما تشتهى سفن التمنى الإنسانى.
يبدأ الديوان بقصيدة «الشتا»، الذى هو تعبير عن شتاء تاريخى للأمة بعد يونيو ٦٧، والإحساس ببرودة الجو العام حد الجمود والموات:
ييجى فى حين
بارد.. عريض الكف.. خاوى العينين
رجليه تقال يا صحْابى.. متسلسلين
بسن كفه يقصنا.. كالرغيف
نبقى أصحاب من بعيد.
يرسم التصوير الشعرى المجردات كالزمن، فى تمثيل يناسب الوعى الشعبى الذى يميل إلى استيعاب القيمى والمفارق فى وعاء يُجسِّدها وقالب تشخيصى للأشياء والمعانى والقيم. ويبدو تمثل الزمن- هنا- الشتاء- نفسيًا هو شتاء المشاعر الذى مس العلاقات الإنسانية وضربها بالجمود.
وفى مقابل تشخيص المجردات كالزمن يتشيأ الإنسان نتيجة لفعل الزمن الباتر، فيُقطع كالرغيف. ولا نغفل- هنا- حضور الرغيف مشبهًا به مكررًا فى العديد من صور الأبنودى. فلِمَ كان ولع الأبنودى بالرغيف مشبهًا به؟ هل ذلك لريفية الأبنودى وانتمائه إلى «صعيد» مصر الجنوبى، الذى يعنى أهله بالخبز إذ تمسى صناعته وإنتاجه عملًا بيتيًا وفعلًا يوميًا لأهل الريف وخصوصًا فى الصعيد؟، هل لكون الرغيف أو الخبز وسيلة الحياة والغذاء الأولية البسيطة، الذى يمثل عند كثير من الفقراء والمعدمين حدَ الكفاف؟
ومن أنصع النماذج فى ديوان «الفصول» التى يتضح فيها إسقاط الأبنودى النفسى لشعور الهزيمة على الأشياء، القصيدة التى بعنوان «الأشياء»:
الأشياء
لما لمستها الشمس الصبح ما صحيتش
ما بتْهجتْش ما لمعِتْش ما غنِّتش
فضلت واقفة زى الصلبان
زى المدن المدبوحة المطاطية
المهزومة
بعد الحرب بيوم.
تقوم رؤية العالم لدى الشاعر بعملية إسقاط لما هو داخل الذات من مشاعر انهزامية على أشياء هذا العالم، فتبدو هذه الأشياء بلا استجابة لأية مثيرات خارجية أو قوى محركة لإنعاشها وإيقاظها من رقادها، كالشمس التى تعنى طاقة التنوير والإحياء، فثمة إحساس بافتقاد البهجة واللمعان والقدرة على الغناء الذى هو تعبير الفن على الانفعال بالعالم، فتبدو الأشياء كصلبان بما يعكس شعور الذات نفسها بالصلب أى القتل والانتهاك النفسى والمعنوى، فتحمل الأشياء أو بالأحرى شعور الذات بالأشياء صدمة الهزيمة وفجيعتها.
وبمراجعة تاريخ كتابة هذه القصيدة المثبت فى ديوان الأبنودى بتاريخ «١ أكتوبر ١٩٦٨» أى بعد مرور حوالى ستة عشر شهرًا على هزيمة يونيو، فإن ثمة شعورًا حادًا بصدمة الهزيمة كأنّ الذات تحس فى الأشياء بانكسار اليوم التالى للحرب. أو كأنّها لم تفق بعد من هول الصدمة الأولى للهزيمة فى الحرب، ولم تستوعب بعد حادث الهزيمة، فتبدو الأشياء فى نظر الشاعر نظيرًا للمدن التى تشعر بالمهانة والذل جراء الهزيمة فى الحرب:
ما أتعس موت الأشياء
والزمن إن جف
ولا يصبح للأشياء ضحكة ولا روح ولا كف.
برد الموت يتّاوب فى الحجرات.
تمشى فـ بيتك بين جدران وحاجات
أموات.
لا الساعة تدق
ولا تِفر النسمة كتابك
ولا تتبسّم ع الحيط
ولا تفضل زعلانة الرسومات.
تبدو الأشياء وكأنَّها مرايا تنعكس عليها مشاعر الذات بعالمها وموضوعاته الإحساس بالتعاسة وموات العالم، ونضوب الزمن الذى يعنى نفسيًّا الرهان على المستقبل والأمل فى التغيير. ثمة شعور باهتزاز الشخصية المصرية بأثر الهزيمة ينسحب على تمثُّل الذات للأشياء التى تبدو فاقدة لروحها وهويتها، فيتجسد الشعور ببرودة العالم وتسلط الموت على أشيائه إحساسًا باليأس بعد الهزيمة يحاصر الذوات فى كل مكان، كما فى حجرات البيت الذى تشعر بموات أشيائه فى تمادٍ لشعور عدمى بالعجز نتيجة التشكك فى إمكانية تخطى الهزيمة.
وينسحب الشعور بتداعى العالم والحصار النفسى للهزيمة على المكان المادى الداخلى للذات، فى حجرات البيت على ثلاثة أشياء: أولها، الساعة، التى هى علامة الزمن وقد فقدت القدرة على الإعلان عن حركة الوقت: «لا الساعة تدق»، ما يعكس إحساسًا غير مبالٍ بالوقت، لفقدان الذات الثقة بنفسها فى القدرة على أن تحدث شيئًا جديدًا أو تتغير الأوضاع والسياقات التى أفضت إلى الهزيمة، وثانى هذه الأشياء، الكتاب، الذى تبدو صفحاته بلا حركة: «ولا تفر النسمة كتابك» فى شعور بثبات الأوضاع الفكرية، أما ثالث هذه الأشياء فهو «الرسومات» التى تبدو فى وضعية حيادية: «ولا تتبسِّم ع الحيط/ ولا تفضل زعلانة الرسومات»، بما يشى بفقدان الذات المعنى من الأشياء، فتعكس الأشياء فى مرايا الذات الإحساس بالشلل وانعدام القدرة على التغيير والحس التشاؤمى إزاء العالم.