رموز حقوقية.. الشيخ والمفوه «١- ٢»
أظن أنني واحد من أولئك الذين عشقوا مهنة المحاماة دون أن ينالوا شرف الانتساب إليها، لا عملًا بها ولا حتى دراسة لها، عشق لا أعرف سببه، اللهم إلا تلك المرافعات الشهيرة التي كنا نتابعها صبية في أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون وتمثيليات الإذاعة.. ولعل ما كان يبهرني في شخصيات المحامين الدرامية هو جملة خصال، أهمها: فصاحتهم ومثاليتهم وتتبعهم الحقيقة وسعيهم الحثيث لرد الحقوق والوقوف في صف الضعفاء ضد تجبر ظالميهم، ورغم تناول شخصية المحامي في بعض الأعمال بإبراز نماذج سلبية، إلا أن هذا لم يؤثر بالسلب على تلك الصورة الذهنية الملائكية التي رسمتها في مخيلتي لشخصية المحامي، ومع التقدم في السن أدركت أن المحاماة- شأنها شأن غيرها من المهن- هي وظيفة يقوم على أدائها بشر وليس ملائكة، فمن البديهي إذن أن تكون فيها نماذج سلبية تمامًا كما فيها من الرموز الحقوقية الملائكية.. غير أني أود الإشارة في مقالي هذا- والقادم أيضًا- إلى بعض رموز المحاماة الذين قرأت عنهم أو تتبعت سيرتهم أو تشرفت بصداقة أحدهم، أما أولهم فهو شيخ المحامين ونقيبهم الأول إبراهيم الهلباوي.. بدأ الهلباوي عمله بالمحاماة في طنطا عند عمر الـ31 سنة، وقال يومًا: «ما أتعس حظ المحامي وما أشقاه، يعرض نفسه لعداء كل شخص يدافع عنه لمصلحة موكله، فإذا كسب قضية موكله، أمسى عدوًا لخصمه دون أن ينال صداقة موكله»، وهذا بالضبط هو ما وقع له حين قَبِل القيام بدور المدعي العام في قضية حادث دنشواي الشهيرة 1906، فقد وقع عليه غضب المصريين بعد أن حكم على أربعة من المتهمين بالإعدام، فسعى إلى إغلاق مكتبه لما لاقاه من نبذ اجتماعي ونفور من المصريين، إلى أن استعاد ثقة مواطنيه حين تصدى للدفاع عن إبراهيم الورداني، الذي اغتال بطرس باشا غالي رئيس الوزراء حينها لأسباب سياسية وطنية، وحين أدرك أن الإعدام هو مصير الورداني خاطبه أمام الحضور بقوله: "اقبل الموت بقلب البواسل فالموت آتٍ لا محالة إن لم يكن اليوم فغدا.. اذهب مودعًا منا بالقلوب والعبرات، اذهب فقد يكون لموتك بقضاء البشر عظة لأمتك أكثر من حياتك، اذهب فإن قلوب العباد إذا ضاقت رحمتها عليك فرحمة الله واسعة".. ويحسب للهلباوي نضاله الطويل من أجل إنشاء نقابة للمحامين حتى كان له ما أراد في سنة 1912، وحينها انتخبه المحامون كأول نقيب لهم بأغلبية كاسحة، وحينها لقبه زملاء مهنته بلقب "شيخ المحامين"، وكان من صيته أن ضُرب به المثل لكل المفوهين وأهل البلاغة حين يوصف الواحد منهم بأن "لسانه ولا لسان الهلباوي".. أما "المفوه" فهو مكرم باشا عبيد، أحد رموز الحركة الوطنية المصرية، نُفي عبيد مع الزعيم سعد زغلول إلى مالطا، ثم شارك في تأسيس حزب الوفد، وتعاون مع زغلول في الدفاع عن القضية الوطنية حتى قال عنه حين رحل: "إن لم يتخذ أي منا في ذكراه عبرة فيجاهد في سبيل وطنه كان هو الحي الميت، وحق لي أن أقول: أيها الميت الحي أنت سعد، أيها الحي الميت أنت عبد".. تولى عبيد عددًا من الحقائب الوزارية كالمواصلات والمالية، غير أن وجه انبهاري بشخصية عبيد هو ما قرأته منسوبًا إليه من خطب سياسية ومرافعات قانونية، فضلًا عن مواقفه الوطنية.. أذكر مما ينسب له أنه القائل: "اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا واجعلنا نحن نصارى لك وللوطن مسلمين"، وهو القائل: "إن الذي ينتصر على غيره قوي ولكن الذي ينتصر على نفسه أقوى".. ومما يحسب له أنه كان صاحب فكرة تكوين النقابات العمالية والمدافع الأول عن حقوق العمال المالية والاجتماعية، بحث مكرم عن الأدوات الصحيحة التي انتهت به إلى النجاح في مهنته ونشاطه السياسي وأجاد التعامل معها، حيث حفظ من القرآن الكريم ما يسر له السبيل لإتقان اللغة العربية وما جعله أحد أبرز من خطب بالفصحى، في ذات الوقت الذي أتقن فيه الإنجليزية والفرنسية، فكان لسانا للقضية المصرية وشرح تفاصيلها للآخرين بلغتهم وثقافتهم، حتى إنهم وصفوه بالخطيب المفوّه، ورغم الخلاف الشديد الذي نشأ فيما بعد بينه وبين النحاس الباشا وقاده لتشكيل ما سمي بالكتلة الوفدية، إلا أنه يظل أحد مؤسسي حزب الوفد وأحد رموزه التاريخيين.