الكمال وضحاياه
يتحدث فيلم (قمر ١٤) عن ضحايا القمر المكتمل، ذلك الكمال والاكتمال الذي يؤثر بشكل ما ليس فقط على حركة الكواكب والنجوم، بل يؤثر على حيوات البشر وقراراتهم.
وتلك نظرية فلكية جدلية أثير حولها جدل كبير يصدقها البعض والبعض الآخر لا يعترف بها ويعتبرها خرافة وتنجيمًا ويستهزأ بها ولا يأخدها على محمل الجد أو يضعها في عين الاعتبار وإن استمع لها يكون ذلك من باب التسلية والفكاهة أو السخرية أحيانًا.
وصدّقت إحدى بطلات العمل في ظاهرة القمر المكتمل وحدثت حبيبها عنها فسخر منها ولم يدرك أنه سيفقدها طوال ١٤ عامًا وهي مدة زمنية يرمز بها لاكتمال القمر الذي يطلق عليه في مصر مصطلح (قمر ١٤) أو (البدر) الذي يعتبر رمزًا للجمال، بل وأعتقد أن لذلك الجمال علاقة بالاكتمال.. في حين أن الكمال ليس للبشر فنحن نكمل بعضنا البعض عندما ننجح في إقامة علاقات صحية ننتصر فيها للحب (كل أنواع الحب) وعندما ننتصر بالحب لقيم الجمال والخير وتصبح علاقاتنا كالبدر في تمامه واكتماله.
وطرح سيناريو الفيلم - الذي يمتاز بالجدة والفرادة - ٥ علاقات منفصلة متصلة تشترك فيما بينها في مشتركات وتختلف كليًا عن بعضها البعض أيضًا في أشياء، 5 علاقات أفشلها المجتمع ويرجع البعض ذلك لاكتمال القمر الذي جعل العلاقات لا تكتمل وهو شيء يصعب إثباته أو نفيه.
وجاءت التيمة الأولى التي نسجها السيناريو لقصة أستاذة جامعية وقعت في غرام المعيد الذي يصغرها في العمر وبالتالي طرح السيناريست المتميز جدًا وهو السيناريست الشاب (محمود زهران) أزمة فارق العمر بين الرجل والمرأة التي تصب دومًا لصالح الرجل ضد المرأة في مجتمعاتنا الشرقية التي لا تقبل بفارق العمر عندما تكبر المرأة الرجل في حين ترحب به وتشجعه وبشدة عندما يكون الأمر بالعكس.
فالمجتمع يسعد ويقبل بزواج الطفلة والقاصر من شيخ مسن في حين يرفض زواج الرجل من سيدة تكبره في العمر ويسوق المبررات، لذلك رغم إن نبي الإسلام قد تزوج من السيدة خديجة وكانت تكبره بفارق عمري كبير كما وقع رئيس فرنسا في حب معلمته منذ أن كان مراهقًا وتزوجها ولم يتهمه أحد بالبيدوفيليا!
وهذا ما ذكره نصًا المعيد الشاب الذي أحب الأستاذة الجامعية في مداخلة تليفونية في أحد برامج التوك شو في القناة الخاصة التي ناقشت قضية الأستاذة الجامعية والمعيد باعتبارها (فضيحة داخل أسوار الجامعة).
فكيف تحب الأستاذة الجامعية المعيد وتربطهما علاقة حب، ونظرًا لذلك الضغط المجتمعي على المرأة في العموم قررت الأستاذة الجامعية رفض الزواج من حبيبها وافترق الحبيبين وتسبب لهما ذلك المجتمع بتابوهاته وأصنام الفكرية البالية وازدواجية معاييره في التعاسة!
التيمة الثانية كانت تيمة (مريم) المسيحية و(إبراهيم) المسلم وقصة الحب التي ربطت بين الإثنين دون أن يدركا أن اختلاف العقيدة سيشعل فيهما النيران (بشكل فعلي وليس مجازيا) بأيادي أهل القرية وأهل الفتاة ليتفحم الحبيبان وهما في أحضان بعضهما البعض وأثناء حرقهما أحياءً تردد (مريم) والتي قامت بأداء دورها الفنانة الشابة (أسماء أبواليزيد) كلمات من أغنية (محمد منير) (مركبي فضة) في حين كان هذا المركب هو الذي أقل الحبيبين للآخرة لا للدنيا!
وقبل أن يدخلا للدنيا ذهبا معًا للآخرة متفحمين في مركب أسود محترق متفحم رغم حلمهما بأن يستقلا مركبا من الفضة! وأكملت (مريم) كوبليها آخر من الأغنية التي تقول كلماتها (ساعات أحب حاجات ميحبهاش غيري في الرايحة في الجايات بغني مع طيري طمني اتطمن في القلب رح تسكن وطول هواكي معايا أدفى واتطمن)
ولقد حدث لهما عكس ما تمنيا وحلما سويًا.
فالدفء تحول لنيران التهمت أجسادهما غير العارية، فمن أشعل فيهما النيران ثأرًا هو العريان الذي لا يخجل وقد فقد آدميته وإنسانيته فأضرم فيهما النيران! مشهد عذب وقاسٍ ومؤثر سيق في دقائق بعد أن قرر أهل القرية والفتاة مصيرهما! وكأن لهؤلاء حق تقرير مصير الحبيبين! أما (إبراهيم) وكنوع من أنواع التعزية لنفسه ولها قال لمريم (ربنا يا مريم مش بيكره الحب) في حين أن الله وبكل تأكيد يحرم القتل.. وقد قُتل الحبيبان جزاء لهما على حبهما.
فالحب يعتبره أهل القرية جريمة في حين يرون القتل ويمارسونه بمنتهى الأريحية ويعتبرونه عقاب وتطهر.
فالحب في عرفهم (خطية) في حين أن القتل خلاص وثأر! وجهنم هي النار التي تطهر الخطايا وتطهر أصحابها من خطيئة الحب! لذلك أرسل أهل الفتاة ابنتهم إلى الجحيم مع حبيبها.. فالجحيم هو المكان الذي يليق بالحبيبين ويليق بالحب الذي جمع بينهما!
القصة الثالثة في الفيلم طرحت تيمة الأب الريفي البطريركي الفكر الذي يفضل الموت - وقد أصيب بالفعل بذبحة صدرية - من مجرد تقدم شاب (خنفس) من وجهة نظره وعلى حد تعبيره للزواج من ابنته.
ورغم أن العريس الشاب قد لبى كل مطالب الأب وحلق شعره وأزال التاتو وغيره من المظاهر التي لا يقبل بها الأب التقليدي الذي ظل مصرًا على ذلك الرفض فأصر الشابان على معرفة سبب الرفض فأعلنها الأب لهما صريحةً وأخبر العريس بأنه لا يمكنه التبري من أهله وأمه التي تعمل في الفن (مهنة التمثيل) فقد رآها أكثر من ١٠ مرات بقميص النوم على الشاشة وهذا ما لا يرضاه لأحفاده وأن تظهر جدتهم على الشاشات بلباس النوم! فالأب بالنفاق الفكري والمجتمعي المتعارف عليه يستحل لنفسه ويستمتع بمشاهدة الفنانة بلباس النوم على الشاشة ويسعد بذلك ولا يعاف رؤيتها ولا يغض بصره عنها لكنه يرفض مصاهرتها وأن تصبح جدةً لاحفاده!
القصة الرابعة كانت لشاب مجتهد من منطقة شعبية (أرض اللوا) تخرج في كلية الهندسة، وأحب فتاة من طبقة اجتماعية مختلفة ورفض أهلها الطبقيين علاقته بها فدبروا له مكيدة وزجوا به فى السجن كي يبتعد عن حياة ابنتهم وبعد معاناة الشاب مع ذلك التصنيف والتمييز والرفض المجتمعي استدرج الشاب الفتاة وأهلها واستخدم التكنولوجيا لتبرئة ساحته أمام والدته ومن يعرفونه وانتزع بالسلاح الأبيض الذي وضعه على رقبة حبيبته اعترافات من أهلها الذين زجوا به للسجن بتهمة تعاطي الحشيش.
وأعترف الشاب لمتابعيه على شبكة الإنترنت في بث مباشر بتعاطيه للحشيش كما اعترف أهل الفتاة بتدبيرهم مكيدةً له في مشهد ديناميكي حي وسريع نلتقط فيه أنفاسنا بصعوبة ونحبسها أحيانا ونحن نتابع حركة الشاب وسكينة على رقبة حبيبته من جانب وهو يحدثنا كجمهور ويحدث من يشاهدونه في بثه المباشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي على الجانب الآخر!
القصة الخامسة والأخيرة التي اختتم بها الفيلم وانتصر فيها للحب وأمات الفراق بين حبيبين بعد ١٤ عامًا من الهجر.
إذ قام (مراد) المذيع الشهير بتسخير ميكروفون الإذاعة لإبلاغ حبيبته السكندرية الأرمينية الأصل التي يعلم من خلال تواصله مع شقيقتها طوال ١٤ عامًا أنها ما زالت تحبه كما يحبها هو أيضًا وأنها تستمع لبرنامجه الشهير وأغانيه عبر الأثير أسبوعيًا، فأهدى لها أغنية الرائعة (وردة الجزائرية) والتي كانت حقًا راوي الفيلم والصوت العذب الذي ظهر في القصة الأولى والأخيرة وكان (وردة) تفتتح الفيلم ثم تصير خاتمته من خلال أغانيها وقصة حبها الخالدة مع الموسيقار الخالد (بليغ حمدي).
ففي قصة الأستاذة الجامعية كانت وردة حاضرةً بأغنيتها (قال إيه بيسألوني) واختتم الفيلم بأغنية (وعملت إيه فينا السنين) التي على أنغامها ذهب مراد (خالد النبوي) لحبيبته (منال) (شيرين رضا) وكان لقاء الحبيبين وانتصارهما للحب وهزيمتهما الفراق هو فينال الفيلم الذي انتصر للحب في زمن الحروب والوباء والتوحش الرأسمالي والأزمات الاقتصادية.
فيلم من إنتاج (السبكي) الذي انتصر للفن في هذا الفيلم وفي أفلام عديدة وقدم أعمالًا تحترم المتلقي وقدم أيضًا أعمالًا ربحية وتجارية بحتة.
وأخرج لنا (قمر ١٤) المخرج المبدع والمجتهد ذو اللمسات الخاصة والفن المتقن المختلف جيد الصنع وهو المخرج الشاب (هادي الباجوري) وحصد الفيلم جوائز عدة، في مهرجان (جمعية الفيلم) و(مهرجان أسوان لسينما المرأة) وقام ببطولته نخبة من النجوم مجتمعين كلهم في فيلم واحد وقصص متفرقة منفصلة فقام بأداء أدوار البطولة الجماعية في القصة الأولى كل من (غادة عادل) و(خالد أنور) وفي القصة الثانية (أسماء أبواليزيد) و(أحمد حاتم) أما القصة الثالثة فجسدها (أحمد مالك) و(مي الغيطي) والرابعة (أحمد الفيشاوي وياسمين رئيس) والأخيرة (خالد النبوي) و(شيرين رضا) اللذان نصرا الحب في خاتمة العمل بعد أن فشل وأخفق الجميع عند اكتمال القمر ذو الـ١٤ يومًا.