مشير باسيل عون: جهود تطوير الفكر الدينى الإسلامى «فردية» (حوار)
لم يبرح المفكر اللبنانى مشير باسيل عون، أستاذ الفلسفة بالجامعة اللبنانية، منذ دراسته الفلسفة فى المرحلة الجامعية، موضع الدارس والمُستبصِر لشتى المعضلات الفكرية، خاصة تلك المتصلة بالدين وفلسفته.
وفى خضم رحلته البحثية، أولى «عون» اهتمامًا واسعًا بالنظر فى الفكر المسيحى والفكر الإسلامى، مقارنًا بينهما ومستخلصًا سبل تحرير الفكر الدينى من جموده، وهو ما تجلى فى عدد من مؤلفاته منها: «بين الابن والخليفة.. الإنسان فى تصورات المسيحية والإسلام»، و«بين المسيحية والإسلام.. بحث فى المفاهيم الأساسية».
وقدّم «عون» اجتهادات فلسفية وفكرية قيمة، مرتكزة على دراسة للفكر العربى منذ عصر النهضة الأولى حتى الإسهامات المعاصرة، وعلى وعى بالإسهامات الفكرية البارزة فى الغرب وموقع الثقافة العربية منها، وكانت له فى هذا السياق مؤلفات مهمة منها: «الفكر العربى الدينى المسيحى.. مقتضيات النهوض والتجديد» و«هايدغر والفكر العربى»، و«الفسارة الفلسفية.. بحث فى تاريخ علم التفسير الفلسفى الغربى».
«الدستور» حاورت «عون»، انطلاقًا من انشغالاته البحثية، حول المستجدات التى تفرض نفسها على الفكر العربى فى الوقت الراهن، وموقع المثقفين العرب منها، وأبرز التحديات التى تواجه المجتمعات العربية بالنظر إلى الماضى والحاضر.
إلى نص الحوار:
■ انشغل المفكرون العرب منذ ما يربو من قرنين ببحث إشكالية التردى الحضارى، وتمخضت عن أسئلتهم مراجعات شتى للتراث والعلاقة بالآخر وغير ذلك من القضايا.. فى الألفية الجديدة، هل لا تزال مراجعات القضايا ذاتها فى الصدارة أم ثمة إشكاليات أخرى فرضت نفسها على الفكر العربى الراهن؟
- حين فقد العرب القدرة على الإنتاج الذاتى فى حقول المعرفة والعلوم والصناعة، خرجوا من التاريخ وأضحوا فى مقام التبعية. أظن أن الخروج هذا حدث فى نهاية أزمنة الاستقلال السياسى العربى فى إثر سقوط بغداد على يد هولاكو المغولى فى العام ١٢٥٨.
ما حدث هناك يشبه فى وجوهٍ شتى ما حدث فى القسطنطينية التى قضى سقوطها فى العام ١٤٥٣ على العالم البيزنطى وحضارته وفكره، ومع أن ممالك إسلامية أخرى نشأت هنا وهناك، وفى مقدمتها السلطنة العثمانية، غير أن المجتمعات العربية أخذت منذ ذلك الحين تخضع لسلطان الآخرين. ومن ثم، استقر فى الوعى العربى أن استعادة القدرة على دخول التاريخ، تقتضى انتشال الهوية الذاتية من الضياع ومواجهة الأمم المتقدمة، وفى طليعتها الغرب. تنوعت سبل الاستعادة، فطالب بعضهم بتجديد التراث «المذهب التقليدى»، وذهب بعضهم الآخر إلى اعتماد المثال الحضارى التقدمى الغربى «المذهب التجديدى»، واكتفى آخرون بالتوفيق بين التراث والحداثة «الإصلاحيون التوفيقيون». ما زال الفكر العربى يمضغ الاجتهادات الصادقة هذه، منذ عصر النهضة الأولى «القرن التاسع عشر»، وعصر النهضة الثانية «النصف الأخير من القرن العشرين». فى هذه الأثناء، تسارعت وتيرة التبدلات البنيوية فى المعارف الغربية بحيث أصبح التغيير الجذرى من نموذج معرفى إلى آخر ممكنًا فى غضون عقدين من الزمن، فى حين كان على الناس أن ينتظروا قرنين أو أكثر حتى تختبر الإنسانية تطورًا بارزًا فى المعارف والمصانع والمسالك. لا شك فى أن النماذج الفكرية الثلاثة «نموذج التشابه فى زمن النهضة الغربية، ونموذج الهوية والنظام والاختلاف فى العصر الكلاسيكى، ونموذج الحياة والعمل واللغة فى الحقبة الحديثة» التى استخرجها الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو- امتدت طوال قرون عديدة، أما اليوم، فإن النماذج المقترحة مثل «الإنسية التجاوزية والترابطية الشيئية العصية على الإدراك وغيرهما»، تنبثق كل عشر سنوات، وتمضى بنا إلى اختبار سبل جديدة من الوعى والإدراك والمعرفة.
■ إذا كان العرب لم ينجزوا حداثة حقيقية جراء الإشكاليات المتصلة بتعاملهم مع تراثهم من جهة وواقعهم من جهة أخرى، فكيف يمكن فهم انخراطهم وتأثرهم سلبًا فى عالم ما بعد الحداثة؟ هل يمكن القول إن العالم العربى فى الإطار العولمى الشامل بات متشبعًا بمثالب الحضارة الغربية، فى حين أنه عاجز عن تمثُل إنجازاتها؟
- لا بد هنا من التمييز بين حقل المعارف العقلية وحقل الوجدانيات الذاتية. ليس للعرب من قدرة على الانعتاق من العلوم والتقنيات الغربية. لكنهم يستطيعون أن يصونوا وجدانياتهم الذاتية شرط ألا تتعارض مع حقائق العلوم الكونية، وألا تتنابز مع مقتضيات التعددية الإنسانية داخل المدينة العربية وخارجها، وألا تتصادم مع متطلبات المعية الكونية السلمية وضرورات صون الحياة الإنسانية.
أسوق مثالًا على ذلك: لا يجوز لأى اختبار وجدانى عربى، سواء كان ثقافيًا أو دينيًا أو اجتماعيًا، أن يُبطل ما أجمعت عليه شريعة حقوق الإنسان من قيم الكرامة والحرية والمساواة والأخوة، ولو أن السياسات العالمية تضر بهذه الشريعة وتظلم الناس فى المجتمعات الفقيرة، كذلك لا يجوز لأى قيمة حضارية عربية، مهما سمت، أن تعطّل حرية العقل الإنسانى الكونى الباحث عن حقائق الوجود. لستُ من عشاق الغرب، خاصة فى سياساته التوسعية الرديئة والظالمة، ولكنى من المعجبين بإنجازاته الفكرية والعلمية والحقوقية والفنية. لا يمنعنى هذا الإعجاب من تثمين كل الإبداعات الثقافية التى تُفرج عنها عبقريات الشعوب. ولستُ من جلادى الشرق العربى، ولكنى أنكر عليه ضلالاته الثقافية التى أفضت منذ سقوط بغداد إلى الانحرافات السياسية والاجتماعية والدينية.
ومن ثم، فإن العرب لا يحق لهم أن يعزلوا أنفسهم عن حركة الوجود التاريخى المعرفى العلمى القانونى الاقتصادى الكونى، وحجتهم فى ذلك أنهم يرغبون فى صون ذاتيتهم. ليست الذاتية الحضارية إنكارًا للزمان المعرفى الكونى، وإبطالًا للإجماع القيمى العالمى، وتعطيلًا للتعددية التسالمية الشاملة.
أخشى أن ينهار السلم العالمى حين يُصر الأصوليون العرب على إخضاع الناس للأنظومة الإسلامية التقليدية التى يظنون فيها القدرة على الإمساك بجميع المعارف والعلوم والمبادئ والقيم والأحكام.
■ كنتَ من بين المفكرين الذين شددوا على ضرورة قيام ثورة ثقافية عربية شاملة، مع إصرارك على وجود عراقيل سببت «استحالة الربيع العربى»، منها طبيعة البنية الذهنية العربية التى وصفتها بأنها دينية تقليدية كما جاء فى مقالتك الشهيرة المنشورة فى جريدة النهار اللبنانية، فعلى أى نقاط ارتكاز يمكن أن تؤسس تلك الثورة المنشودة؟
- لا بد فى هذا السياق من التذكير بالنظريتين اللتين تفسران عملية التغيير الثورى الأعمق: يظن أصحاب النظرية الثقافية أن التغيير الأكثر فاعلية يأتى من أعماق البنية الثقافية والذهنية الاقتناعية والأنظومة الفكرية، فى حين يعتقد أصحاب النظرية الاجتماعية/ الاقتصادية أن التغيير يأتى من تبدل الأحوال الخارجية والأوضاع الإنتاجية والعلاقات السائدة بين الناس. حين كتبت بحثى عن «استحالة الربيع العربى الفلسفية»، جاءتنى الردود القاسية من كل حدب وصوب. أحزننى أن معظم القراء لم يريدوا أن يعترفوا بأهمية التغيير الثقافى، بل اكتفوا بضرورة تغيير الأنظمة السياسية. من الطبيعى أن تسقط الأنظمة الظالمة التى تخنق الحريات، ولكن ليست الثورة الناجحة تلك التى تُسقط الحاكم، بل تلك التى تُسقط الأنظومة الثقافية التى أفضت إلى وصول الحاكم الظالم إلى سدة الحكم.
لا يعنينى فى الثورات العربية أن يذهب حاكم ويأتى آخر، بل أن ينفض الإنسان العربى عن وعيه غبار الخضوع لأحكام الأنظومة الثقافية المهيمنة. فى الحال العربية، يجب علينا أن نعترف بأن الأنظومة الثقافية مقترنة أشد الاقتران بالخلفية الدينية، لذلك لا بد من تجديد الأنظومة الدينية وتحرير الإيمان الذاتى من سلاسل المؤسسة الدينية حتى تنبثق من اختبارات الناس ثورة ثقافية شاملة تضع قيم شرعة حقوق الإنسان فى موضع الصدارة.
عاتبنى الكثيرون على استخدام اصطلاح الاستحالة. أعترف بأنه اصطلاح شديد الوقع على الوعى. غير أننا لن ننهض من رقادنا الحضارى إلا بصدمة كيانية تهز وعينا فى أعمق أعماقه. إنى من مناصرى الثورة الثقافية الشاملة. ولكنى أيضًا من المذهب الواقعى الذى يعاين الإعاقات البنيوية التى تمنع المجتمعات العربية حتّى اليوم من الثوران الحق. ليس يكفينا أن ننشئ المراكز الثقافية وننشر المصنفات الفكرية ونعقد المؤتمرات الفلسفية ما دمنا نعجز عن استجلاء الأسباب البنيوية العميقة التى تمنع الإنسان العربى من التفكير الذاتى الحر، ومن المبادرة الذاتية الخلاقة التى تغير فى مسلك الناس وتحررهم مما تعودوا انتهاجه منذ مئات السنين. قد يعترض معترض فيرفض ضرورة التغيير من أجل التغيير. والحال أنى لا أنادى بالتغيير طلبًا لملذات الجدة، ولكنى أطالب بتغيير البنى الثقافية من أجل احترام كرامة الإنسان العربى، وصون حرياته الأساسية، وتعزيز شروط العدالة الاجتماعية، والحرص على استثمار موارد الأرض استثمارًا حصيفًا يُنصف الطبيعة والبيئة ويحافظ على الأرض مسكنًا للإنسانية المقبلة. إذا أراد المفكرون العرب أن يثوروا اليوم، كان عليهم أن ينعتقوا من سلطان الأيديولوجيات القومية والدينية والعلموية، ومن سطوة البلاطات السياسية المغرية، ومن محنة المعاركة الوجدانية المنهكة مع الغرب. آن أوان الفوز بالسكونية الذاتية، والاعتماد عليها فى وثبة ثقافية شاملة يضطلع بها الوعى العربى، الفردى والجماعى، فى كل مجتمع من المجتمعات العربية.
■ فى إطار حديثك هنا عن «سلاسل المؤسسات».. كيف يمكن تطوير الخطاب الدينى وتحقيق التفاعل بينه وبين منجزات العلوم الإنسانية كما تطالب؟
- إذا أردنا أن نعرف سبب الجمود فى المؤسسة الدينية، كان علينا أن ننظر فى الأمثلة التاريخية التى كشفت لنا عن أحوال التغيير. لننظر فيما حدث فى الغرب الأوروبى، اختبرت المجتمعات الغربية أطوارًا جديدة من الإنتاج العلمى والصناعى، منذ القرن السادس عشر، فتعاقبت الثورات العلمية والصناعية على توالى القرون حتى مطلع القرن الحادى والعشرين. فى كل ثورة، كان الصراع يشتد بين المحافظين والمجددين فى الفضاءات الدينية المسيحية الغربية. حقيقة الأمر أن التطور الدينى المسيحى فى الغرب خضع لعاملين اثنين: الثورات العلمية التى ذكرتها، والقابلية الحيوية التطورية التى ينطوى عليها اللاهوت المسيحى. من خصوصية الثورات العلمية أنها انبثقت من صميم المسعى العقلى الغربى، ولم تهبط على المجتمعات من علٍ، ولم تأتها من الخارج، على غرار ما يحدث فى المجتمعات العربية منذ القرن الثالث عشر. أما عامل القابلية التطورية، فإن المسيحية تعززه على قدر ما تؤيد بضعًا من الحقائق الأساسية. أولًا، على وجه العموم، تعتصم المسيحية بالعلاقة الشخصية التى تربطها بالسيد المسيح، قبل أن تلتزم حرفية الكتاب المقدس؛ ثانيًا، تميز المسيحية المجال العمومى من المجال الخصوصى، إذ إن الملكوت منغرس فى وجدان الإنسان لا يحتاج إلى منظورية اجتماعية وسياسية قاهرة؛ ثالثًا، تكتفى المسيحية بشرعة روحية جامعة مانعة تجسدها وصية المحبة: محبة الله ومحبة القريب، بحيث يمكن الإنسان المسيحى أن يحب ويفعل ما يشاء، على حد قول القديس أوغسطينس.
وأوردتُ مثالًا على التطور الذى يلائم حركة الوجود التاريخى فى سياق المجتمعات الغربية الممهورة بالإرث المسيحى. يمكننا استلهام هذا المثال من أجل النظر فى قرائن التطور الدينى فى سياق المجتمعات العربية المنادية بالإسلام فى حيزها الثقافى الأوسع. ليس لنا أن ننقل نقلًا حرفيًا ما حدث فى الغرب، ولكن علينا أن نتبصر ونتأمل ونتفاعل حتى ينبثق التجديد من صميم الذاتية الثقافية العربية، فتنتقل من حال الوسطية القديمة إلى حال الحداثة الكونية. حتى اليوم لستُ أعاين إلا جهودًا فردية فى تطوير الفكر الدينى الإسلامى، وبعض المساعى السياسية التى تضطلع بها بعض الأنظمة العربية، من أجل تجديد الأنظومة الإسلامية تجديدًا يستند إلى مقتضيات التفاعل البناء المثمر مع حركة التاريخ الكونى. أما وعى الأفراد والجماعات، فما زال وعيًا مأزومًا مضطربًا مرتبكًا خاضعًا للتقاليد المتوارثة.
■ فى ضوء اهتمامك بدراسة الفكر الدينى المسيحى والإسلامى والمقارنة بينهما، إلى أى مدى يمكن القول إن الخيار الصوفى، بما يطرحه من تركيز على البُعد الروحى للدين، يُمكن أن يشكِّل خلاصًا من عديد الإشكالات؟
- لا شك أن الأنظومة اللاهوتية والمؤسسة الدينية تفرضان على الإنسان خضوعًا رضيًا، يقتصر النقاش فيه على بعض الأمور الثانوية التى لا تمس جوهر العقائد. ليست الحرية من خصائص الدين. أما التصوف، فينطوى على جانب مشرق، وجانب مربك.
المشرق فى التصوف انعتاقه من العبارة اللاهوتية الرسمية، واستثماره الرقّة الوجدانية، وتطلّبُه العمق الروحى، واستشرافه القمم التوحيدية المشتركة. أما المربك، فالانعزال عن حركة التاريخ، والإعراض عن إشكالات الواقع الحياتية، والإغراق فى تصوير العالم تصويرًا طوبَويًا ملكوتيًا. ليس التصوف حلًا شافيًا، بل إعادة تأويل حقائق الإيمان تأويلًا يجعل الإنسان يعتصم بالجوهر الذى تنطوى عليها العقائد، عنيتُ به اقتران الوجود الإنسانى بفعل حب أصلى يغمر الكون كله بسناء حضوره. إذا اقتنع أهل الأديان بأن جوهر الإيمان الاعتراف بالصلة الوجودية العميقة التى تربط الإنسان بالحب الإلهى، لاستطاعوا أن يتدينوا تدينًا راقيًا ومنفتحًا ومتطورًا.
■ ما العائق الرئيس الذى تظنه يحول دون تحقيق ذلك؟
- العائق الأساسى ناشئ من مأزق الحرية فى الوجدان العربى، لأن هذه القيمة ما زالت خاضعة لقضايا الانتماء القومى والدينى والأيديولوجى، وقضايا المنعة الجماعية والانتظام الآمن، وقضايا التقليد والتراث والهوية والأمانة.
ما دامت الحرية الفردية تقيّدها مثل هذه الاعتبارات، فلا سبيل إلى النهوض والتجديد والتطور. الحرية وحدها قادرة على إنعاش الإيمان، وإصلاح وعى الإنسان المؤمن، وتجديد الخطاب اللاهوتى.
■ ما الأسباب الكامنة وراء اهتمامك الخاص فى عدد من كتاباتك بفلسفة «هايدغر» وتلقيها فى الثقافة العربية؟ وكيف يمكن للفكر العربى أن يستفيد منها؟
- نشأتُ على حب الفلسفة واللاهوت فى سنوات دراساتى الجامعية، وأسعدت فى معهد القديس بولس للفلسفة واللاهوت «حريصا، لبنان» بالاستماع إلى محاضرات الفيلسوف اللبنانى الراحل بولس الخورى «١٩٢١- ٢٠٢١» الذى كان يشرح لنا نصوص «هايدغر» شرحًا ساحرًا يُعتقها من صعوباتها اللغوية من غير أن يجردها من سحرها الإيحائى. وما لبثت أن أعددت رسالة الدراسات العليا المعمقة فى استجلاء مقام الميتافيزياء الغربية فى نقدية «هايدغر» الأونطولوجية التى تناول بها التقنية المعاصرة «الجامعة اللبنانية، بيروت».
فى مرحلة الدكتوراه، وكنت أتنقل بين فرنسا وألمانيا، عمدت إلى إعداد أطروحتى فى «تأصيل المدينة الإنسانية فى أونطولوجيا هايدغر». بعد عودتى إلى لبنان، عكفتُ على استثارة التفاعل الثقافى بين الفكر الأونطولوجى الهايدغرى والفكر العربى فى كتاب صدر أولًا بالفرنسية عام ٢٠١١، ومن ثم بالعربية، عنوانه «هايدغر والفكر العربى». وأنهى اليوم دراسة شاملة فى فكر «هايدغر» تهيئ للقارئ العربى أن يدرك مضامين الإسهام الفريد الذى أتى به الفيلسوف الألمانى الفذ، وعنوانها «الإنسان فى رعاية الكينونة: هايدغر فى المتناول الفلسفى العربى». ذكرتُ الكتب الأربعة هذه لأبيّن أن اعتنائى بـ«هايدغر» ناشئ من أسئلتى الفلسفية التى كانت تُفضى به إلى الاستفسار عن معنى الوجود كله، أى عن معنى الكينونة. فى إثر ذلك، تَبيَّن لى أن هذا النمط من التفكير التأصيلى قد يساعد الفكر العربى فى إعادة النظر فى مسلماته النظرية، وفى ثوابته المعرفية، وفى نماذجه المنهجية. وعلاوةً على ذلك، اتّضح لى أنّ نقد «هايدغر» الميتافيزياء الغربية يصيب فى جزء منه الفلسفة العربية الوسيطية، فيستنهضها من أجل استعادة منهجية تعيين الهوية، وتحديد الكينونة، وتعريف الكائنات والموجودات والأشياء. أما الفكرة الناظمة التى تفيد الفكر العربى المعاصر، فالقول بالسكونية الهايدغرية الرضية التى تستقبل الأشياء فى تجلياتها الحرة الغنية من غير تعنيف أو تشويه أو احتكار أو اختزال أو إسقاط. ولكن تحتاج المجتمعات العربية المتشنجة إلى مثل السكونية الوجدانية الخلاصية هذه.
كيف يمكن قراءة مستجدات الألفية الجديدة بالمجتمعات العربية فى ضوء ذلك؟
- فى سياق هذه التبدلات يجب على المجتمعات العربية أن تنفض عنها غبار الإشكاليات العتيقة، وأن تدخل آمنة زمن الحداثة الكونى الذى يفرض عليها أن تشارك جميع الأمم فى اختباراتها الثقافية المستلة من معين تراثها وتاريخها، وقد انعتقت من سلاسل الجمود التعبيرى.
ليس للعرب أن يقوموا فى زمن غير الزمن الكونى، وفى حال حضارية غير الحال الناشطة بين المجتمعات العالمية، وفى وضعية علمية مختلفة، وفى إنتاجية اقتصادية منعزلة. أعجز عن تصور هذا المقام بمعزل عن حركة الوجود التاريخى الكونى. إذا كان العرب قد ارتضوا بأن يعتمدوا العلوم الغربية، إذ ليس لديهم من علم عربى قائم بحد ذاته، وارتضوا بأن يستخدموا التقنية الغربية، فلمَ لا يرتضون بأن يعتمدوا الخلفيات الفكرية التى انبثقت منها هذه المعارف كلها التى ترسم سبل التفكير الصحيح الذى يجعلهم يدركون هويتهم وخصوصيتهم إدراكًا أفضل؟ ليس للعرب من طريق فى التفكير العقلى تختلف عن الطريق المعتمد كونيًا، إذ إن العقل الإنسانى واحد. ولكنهم على فرادة فى ذاتيتهم تتعلق بأذواقهم وإحساساتهم واختباراتهم.