عظمة «الاختيار 3».. وأول «مسلسل تسجيلى وثائقى» فى التاريخ
منذ سنوات طويلة لا أطيق مشاهدة المسلسلات التليفزيونية، ربما لأسباب تتعلق بالسن والملل، أو الصبر على متابعة الأحداث والانتظار لما يأتى من حلقات.. ربما لسوء مستوى الأعمال التى تابعتها قبل ذلك القرار الذى لم أتخذه عن عمد، وربما لأسباب أخرى، غير أن ذلك هو ما حدث بدون تمهيد، أو مقدمات، أو مؤشرات تدل عليه.
خلال تلك السنوات وجدت نفسى أقرب إلى السينما، حيث يبدأ الفيلم وينتهى خلال ساعتين، أقل أو أكثر قليلًا، أحصل خلالها على ما يكفينى من وجبة الفن الذى أحب، وكفى الله المتفرجين شر الانتظار.
على أن الأمر لم يخل من بعض المسلسلات التى تدخلت ظروف مختلفة، واضطرتنى لمشاهدتها، منها مثلًا مسلسل كورى حكت لى عنه ابنتى التى دخلت عامها السابع عشر فى مارس الماضى، كان ذلك منذ عامين تقريبًا، وكانت فكرة المسلسل عن فندق للموتى، يعيشون فيه فترة انتظار لاستكمال رحلتهم إلى العالم الآخر، فكرة مغرية بالمشاهدة، فما بالك ومن تحدثنى عنها هى ملك التى لا أستطيع أن أرفض لها طلبًا، أو أرد لها رغبة، والتى وجدت فى استمتاعى بما تحكى لى عنه فرصة لمشاهدة إحدى الحلقات معًا، ويا ليتنى ما فعلت، فما حدث أننى وجدت نفسى مشدودًا لمتابعة باقى حلقات المسلسل الذى جذبتنى أحداثه، وقصته، وطريقة إخراجه وتصويره، وموسيقاه، فاضطررت لقضاء ليلتين كاملتين فى متابعة باقى الحلقات دون نوم، ودون أن ألتفت لما صاحب ذلك من إرهاق وتعب، وأننى لم أعد ذلك الشاب الذى يمكنه مواصلة يومين دون نوم.. على أننى بالفعل استمتعت بالمسلسل، وربما فكرت فى مراجعة موقفى المعادى للمسلسلات التليفزيونية، لكننى لسبب لا أعرفه الآن لم أفعل ذلك، واستمرت مقاطعتى لها.
ومنها ما حدث مع الجزء الثالث من مسلسل «الاختيار»، الذى تم عرضه خلال شهر رمضان هذا العام، فقد قرأت عنه كثيرًا، وتابعت ردود الفعل حوله، لكنها فى البداية لم تكن بقوة تأثير وإقناع ابنتى ملك، إلى أن كنت بصحبة الدكتور محمد الباز فى مكتبه عندما بدأت إذاعة إحدى الحلقات، فوجدت عينى تتعلق بالشاشة، ووجدت حبل الكلام لا يريد أن ينقطع، وسيلًا من الذكريات والأحداث التى عايشناها وعشناها تتحرك أمامنا وكأنها تحدث الآن، ووجدتنى مأخوذًا بما أرى، خصوصًا ما احتوته الحلقات من تسريبات كاشفة ومهمة، تضع العمل بأكمله فى دائرة التوثيق، وتضع المشاهد فى بؤرة صناعة القرار خلال تلك السنة الأصعب من عمر مصر.
ووجدتنى أعود لأبحث عن طريقة لتحميل باقى حلقات المسلسل التى فاتتنى، وأعاود مشاهدته كاملًا، ووجدتنى أغرق فى ساعات من المتعة الخالصة، والحنين الجارف لتلك الأيام التى مرت على أعصابنا جميعًا.. على أن الحلقة الأخيرة، التى اختتمت بقرار الانتصار لإرادة الجماهير، كانت وما زالت تشعرنى برجفة قوية، وتعيدنى إلى مقهى «البورصة»، وتلك الليالى الصعبة التى كانت الأعين تتعلق فيها بشاشة التليفزيون فى انتظار ذلك القرار، يومها كنت أجلس وسط آلاف الشباب الذين غمرهم الحلم، والترقب، وتعلقت آمالهم بكلمة تصدر من وزير الدفاع، فتعيد مصر إلى أبنائها الشرعيين، وتعيد الحياة فيها إلى مسارها الذى اختارته، واختاروه لها منذ سبعة آلاف سنة.
شاهدنا من قبل أعمالًا درامية مستمدة من أحداث واقعية، أو عن حياة أشخاص شاركوا فى صنع حضارة مصر ومجدها، ثقافتها وفنونها، وشاهدنا كيف اجتهد صناعها، وفنانوها فى الاقتراب من الأحداث الحقيقية، بشخصياتها، ووقائعها المسجلة أو المعروفة لدى العامة، لكنها دائمًا ما كانت تنتصر لصالح الصفة الدرامية، بما يسمح للممثل والكاتب والمخرج بمساحة من الاجتهاد والفن، لتبقى لدى الجمهور على أنها أعمال فنية «مبنية» على أحداث حقيقية، يقرها البعض ويختلف حولها البعض، إلا أننى أجد أن الجزء الأكبر من عظمة «الاختيار ٣» يكمن فى أنه «ليس مبنيًا على أحداث حقيقية»، بل إن هذه هى حقيقة ما حدث، وهذا هو بالضبط ما اختبرناه ورأيناه بأعيننا، وصنعناه بأجسادنا طوال عام من أصعب سنوات عمرنا.
ما شاهدناه على الشاشة طوال ٢٩ ليلة، هو بالضبط ما عشناه طوال عام من الاختطاف، والمراوغة، والترقب، والأمل، دون زيادة أو نقصان، ولهذا فربما لا أجدنى مغاليًا إن قلت إن الجزء الثالث من «الاختيار» يمكن اعتباره كأول «مسلسل تسجيلى ووثائقى» فى التاريخ، وربما كان ذلك هو التفسير الوحيد لتلك الرجفة التى انتابتنى وأنا أشاهد لحظة إعلان وزير الدفاع وقتها، عن خارطة الطريق، والانتصار لإرادة الجماهير التى تعلقت قلوبها بكلمة منه، فقد شعرت وقتها وكأننى أعود إلى جلسة المقهى، والانتفاض فرحًا وترحيبًا بالقرار، وبعودة مصر إلى أيام مجدها، وقوتها، وعودتها إلى أحضان شبابها وناسها وخلاصها من فصيل «الأهل والعشيرة».
ربما أراجع قرارى بمشاهدة بعض المسلسلات، وربما يكون «الكبير أوى» هو محطتى المقبلة.
كل سنة ومصر وأهلها وناسها طيبون.. عيد سعيد على كل المصريين وكل اللى يحبوا مصر وأهلها.. وغير كده لأ.