الاختيار 3.. بين الواقع والخيال
كيف ابتز الإخوان المصريين لتبرير الترشح للرئاسة؟
الإخوان ظلوا يدّعون أنهم تحولوا لحزب مدنى وفى أقرب فرصة تحالفوا مع كل فصائل الإرهاب
حازم أبوإسماعيل إخوانى أبًا عن جد والإخوان استخدموه كفزاعة حتى يرحب الناس بمرشحهم الذى قدموه على أنه قابل للسيطرة
الجيش المصرى وقائده اعترفوا بشرعية مرسى كرئيس منتخب لكنهم رفضوا هيمنة مكتب الإرشاد
خطاب مرسى الأخير كان القشة التى قصمت ظهر الإخوان والرئيس السيسى أدرك بعدها أنه لا أمل فيه
أكثر ما آلم الإخوان فى «الاختيار» أنه أعاد ترتيب الحكاية.. بسلاسة وسهولة وأدلة مصورة.. فكك رواية المظلومية وقال لنا تفاصيل ما حدث، ليس فى عام حكم الإخوان فقط ولكن منذ يناير ٢٠١١.. كيف ابتزوا الجميع بظاهرة صنعوها اسمها حازم صلاح أبوإسماعيل.. والسلفيين.. والجماعة الإسلامية.. وكيف حفروا طريقهم نحو النهاية بصبر وتخطيط وغباء يحسدون عليه.. فى مشهد النهاية الوثائقى من الحلقة السابعة والعشرين وعلى كنبة الاعتراف يرمى محمد مرسى، قبل أن يصبح رئيسًا، أول خيوط تراجع الإخوان عن عدم خوض انتخابات الرئاسة، فيقول: «السلفيين ٨ مليون صوت.. يعنى لو وقفوا مع واحد زى حازم يوصلوه إعادة».. يلتقط الخيط خيرت الشاطر شريكه فى الاجتماع ويكمل طرح الفكرة: «أنا اتكلمت معاهم فى الموضوع ده.. إقناعهم بغير حازم سهل! بس المهم إنك تدى له بديل إسلامى.. المزاج العام مزاج إسلامى وفرص نجاح المرشح (الثانى) موش كبيرة.. فحازم اللى هينجح».. من بين السطور تقرأ التالى «إما أن تتركونا نترشح للرئاسة.. ونسيطر على كل شىء.. أو نقف خلف مرشح مختل متطرف.. ينظم تيارًا يضم خليطًا من الإرهابيين والمراهقين والسلفيين الجهاديين والإخوان أيضًا.. هو من صناعتنا وتربيتنا ولكن هذا هو دوره فى هذه اللعبة.. أن نبتز به الجميع.. تمامًا مثل من يربى كلب حراسة شرسًا ويفكه من طوقه إذا ضايقه أحد.. ثم يعيده إليه بعد نهاية الموقف».. من يسمع التسجيل دون سابق معرفة سيظن أن حازم عدو للإخوان أو منافس لهم.. لكن الحقيقة أنه عضو فى الجماعة منذ السبعينيات وأبوه قيادى فيها ونائب عنها فى مجلس الشعب لدورات متتالية، وهو نفسه كان أحد رجال الجماعة فى نقابة المحامين.. لكنه بعد يناير ظهر فى هذا الدور.. «الفزاعة» التى تخيف الآخرين من «تطرف» الإسلاميين وتجعلهم يجرون على الجماعة العاقلة.. الرشيدة.. التى يمكن التفاهم معها وتستطيع السيطرة على أتباعها من الإسلاميين ما دامت طلباتها ملباة.
لا يمكن أن تفهم مشهد استقواء الإخوان المستمر بالإرهابيين وفصائل الإسلاميين المختلفة دون أن ترجع عشر سنوات للوراء قبل يناير ٢٠١١، حيث كانت الجماعة تجرى عملية تجميل متعددة المراحل يتواطأ معها فيها خبراء استراتيجيون وصحفيون وسياسيون.. وكان الهدف الإيحاء بأن الجماعة هجرت الإرهاب وأصبحت أقرب لحزب سياسى، وأنها تعترف بحقوق المرأة والأقباط وبالتعدد والاختلاف.. وهى كلها أكاذيب كشفها صعود الإخوان للسلطة.. فمنذ اليوم الأول دخلوا فى تحالف مع السلفيين أولًا ثم مع السلفية الجهادية ثم مع فلول الجماعة الإسلامية ثم مع حازمون ثم مع القاعدة ومحمد الظواهرى ممثلها فى مصر ثم مع «داعش» الذى ظهر بينما الإخوان غادروا السلطة وقياداتهم فى تركيا على بعد دقائق بالسيارة من دولة الوهم التى قادها «داعش».. وهكذا ما إن ركب الإخوان ثورة يناير وحولوها لانقلاب لمصلحة الإخوان.. نسوا كل باقات الورد التى أرسلوها للتيارات المدنية والصحفيين الذين اشتروهم ليكونوا مراسيل الغرام مع هذه التيارات، ونسوا أكاذيب تحول الجماعة إلى حزب مدنى يمكنه أن يكون بديلًا للحزب الوطنى الذى اتهمه الناس بالفساد.. أخرج الإخوان أوراقهم القديمة وعادوا إلى طبيعتهم كأكبر جماعة إرهابية.. خرج منها مفكر التكفير الأكبر فى العالم.. وخرج من سلتها كل أمراء التكفير من شكرى مصطفى.. لمحمد عبدالسلام فرج، ومن أسامة بن لادن إلى الزرقاوى.. وبعد أن صرحوا فى أول أيام خلع مبارك بأنهم لن يترشحوا للرئاسة ولن يترشحوا سوى على ثلاثين فى المئة من مقاعد مجلس الشعب، سال لعابهم على الكعكة الشهية.. فتحالفوا مع السلفيين واستولوا معًا على ٦٥٪ من مقاعد مجلس الشعب.. وبعد شهور كانوا يطالبون بأن يشكلوا الحكومة ويهددون كمال الجنزورى بالإقالة.. وكانت الخطة كما كشفها تسريب «الاختيار» هى التلويح بخطر أكبر وبتطرف أكبر وبمرشح مختل غير قابل للتفاهم معه.. وهو ما يعنى إشعال حرب أهلية فى البلاد.. وبعد إجراء الانتخابات وتقدم المرشح المنافس لمحمد مرسى بطعون فى العملية الانتخابية كان التلويح بإشعال النار فى البلاد وبحرب لا تبقى ولا تذر، على لسان محمد مرسى الذى ادعى أنه «ناصح أمين» للمشير طنطاوى وللرئيس السيسى الذى كان وقتها مديرًا للمخابرات الحربية.. لقد شرح الرئيس السيسى تفاصيل ما جرى فى كلمته لنا فى إفطار الأسرة المصرية، وضرب مثلًا بواحدة من قصص القرآن الكريم التى تشرحها كتب التفسير وتقول إن نزاعًا نشب بين امرأتين على بنوة طفل صغير.. كلتاهما تدعى أنها والدته.. وأن النزاع حكم فيه نبى الله داود.. لكن ولده النبى سليمان نقض حكمه وأعاد المحاكمة وقضى بأن يقسم الطفل إلى نصفين وتعطى كل امرأة منهما نصف جسد الطفل، ففزعت أمه الحقيقية وقالت إنها تتنازل عن بنوته لمنافستها حرصًا على حياته.. وقد قال الرئيس السيسى إن موقف الجيش المصرى فى ٢٠١٣ كان أشبه بأم الطفل الحقيقية.. فقد خشى الجيش على مصر أن يقسمها النزاع والحرب الأهلية إلى نصفين فأقر للإخوان بالسيطرة عليها ولم يمانع فى مساعدتهم طلبًا لمصلحة المصريين جميعًا وبحثًا عن استقرار الأوضاع
أهمية ما يقوله الرئيس أنه ينفى رواية المظلومية الإخوانية من أن الجيش سمح للإخوان بالصعود للحكم حتى يتآمر عليهم ويثبت فشلهم فلا تقوم لهم قائمة بعد ذلك.. وهى رواية مريحة للإخوان.. تعفيهم من مسئولية الفشل والقرار الخاطئ والحسابات الفاشلة.. فالحقيقة أنهم استغلوا حازم أبوإسماعيل كعروس ماريونيت يلاعبون به الآخرين ويبتزونهم، وما إن نالوا مطلبهم حتى سارعوا بإخراجه من السباق والإبلاغ بمعلومة حصول والدته على الجنسية الأمريكية من خلال د. محسن حمزة، وهو أستاذ جامعة إخوانى مهاجر لأمريكا وتربطه بأسرة والدة حازم وشقيقته معرفة وثيقة فى إطار نشاط الإخوان فى المهجر.. ولم يعنِ إخراج الإخوان لحازم من السباق أى خلل فى علاقته بالجماعة، فهو جندى من جنودها يلعب أى دور يكلف به حسبما تقتضى مصلحة الجماعة.. أما الإخوان أنفسهم فقد تآمروا على أنفسهم.. وقادهم غباؤهم إلى حتفهم.. كما نرى من أحداث الحلقة السابعة والعشرين، حيث ذهب خيرت الشاطر ومعه سعد الكتاتنى لمقابلة وزير الدفاع بهدف واحد هو التهديد، والحديث عن استقدام الإخوان لإرهابيين من أفغانستان والشيشان وسوريا وكل المواقع التى تسيطر عليها تنظيمات الإرهاب الإسلامى.. وقد روى الرئيس السيسى فيما قبل أنه كان يمثل بإصبعه حركة الضغط على الزناد لتوضيح ما يقول.. وأن الرئيس رد عليه قائلًا: «هو إنتم يا تحكمونا يا تقتلونا؟»، والحق أن الرئيس لخص بهذا التساؤل الاستنكارى جوهر الإسلام السياسى، فهم يرون أن الحكم مهمة إلهية لا اجتهاد بشرى، وأن السيطرة على البلاد أمر دينى لا أمر دنيوى، ومن ثم فإن من يرفض سيطرتهم كافر مباح دمه وإن أخفوا ذلك أو أجلوا تنفيذه بعض الوقت.. وهكذا ما إن سقط نظام مبارك حتى ألقى الإخوان فكرة الجماعة المدنية حليفة الليبراليين تحت أحذيتهم، وانطلق خيرت الشاطر فى بناء تحالف قوى مع كل أطياف الإسلاميين، وقال قيادى جهادى سابق هو نبيل المغربى إن الشاطر دفع ملايين لطارق الزمر ومجموعة من الجهاديين وإن أحوالهم المالية تغيرت بعد التحالف مع الإخوان.. وقد عبر هذا التحالف عن نفسه فى كيان أطلقوا عليه «تحالف دعم الشرعية».
لقد كان الحكم على محمد مرسى ودوره فى الأحداث دائمًا محل خلاف بين المعادين للإخوان.. فلا أحد يعرف هل هو ضحية للإخوان أم شريك لهم.. وقد قال الأستاذ محمد حسنين هيكل عقب خلعه شيئًا قريبًا من هذا المعنى، حيث رآه رجلًا غير مؤهل لمنصبه الذى وضعه فيه الإخوان.. وقد لفت نظر الكثيرين أن الرئيس السيسى تحدث عن محمد مرسى قائلًا: «الله يرحمه»، ومن وجهة نظرى أن هذا يتسق مع طبيعة الرئيس السيسى شديدة التهذيب، فضلًا عن أن طلب الرحمة لشخص لا يعنى تبرئته من ذنوبه.. بالعكس فالرحمة والمغفرة تطلب لكل بنى آدم.. وكل ابن آدم خطاء.. أما على المستوى السياسى فمن الواضح من كل الأحداث أن الجيش المصرى كان يعترف بشرعية محمد مرسى وبحقه فى الحكم بناء على اختيار الناخبين له، وأن الاعتراض كان على ممارسة قيادات الإخوان الحكم دون أى صفة، وكان أيضًا على مخططات الأخونة والتمكين التى كان الإخوان يسابقون الزمن للقيام بها.. ولم يكن خافيًا وقتها ولا فى أحداث «الاختيار» أن وزير الدفاع طلب من محمد مرسى أن يكون رئيسًا لكل المصريين، وأن يخلع عنه عباءة الجماعة الضيقة.. لكن مرسى كان عضوًا فى جماعة تسحق فردية أعضائها وتحيط بهم من كل جانب كأخطبوط بمائة ذراع.. تغسل أدمغتهم وتدمغ أرواحهم وتقنعهم بأنهم سيدخلون النار فى الدنيا والآخرة إذا فارقوها.. فمرسى مثلًا ليس الإخوانى الوحيد فى أسرته.. فأسرته كلها إخوان وقد يقاطعه معظمهم كما قاطع بعض الصحابة آباءهم فى فجر الإسلام.. حيث يقنع الإخوان أتباعهم بأن دعوتهم شبيهة فى كل شىء بدعوة الإسلام الأولى وإن كفوا عن التصريح بأن حسن البنا يدعى أنه نبى القرن العشرين.. لقد عبّر الممثل صبرى فواز عن كل هذه المعانى فى جملة حوار قائلًا: «هو أنا لو سبتهم هيسيبونى ولا هيسيبوا ولادى؟»، وهى جملة تختصر الكثير من المعانى والأفكار.. والمعنى أن الجيش ظل يعترف بشرعية الرئيس مرسى ويحاول تحريره من أسر مكتب الإرشاد والتبعية له، ويطلعه على أسرار الدولة ويرسل له تقارير تقدير الحالة والموقف السياسى، وأنه ظل يعترف بهذه الشرعية حتى أعلن مرسى رفضه إجراء انتخابات رئاسية مبكرة صباح ٣ يوليو.. ولو وافق لأعلن هو القرار بنفسه بصفته رئيسًا للجمهورية ولظل يعامل معاملة رئيس جمهورية سابق ولسارت الأمور فى مسار مختلف تمامًا.. يتمنى الإخوان حاليًا لو أنها كانت قد سارت فيه.. أو فى نصفه.. أو فى ربعه.
والحقيقة أن اعتراف وزير الدفاع بشرعية محمد مرسى ورغبته فى مساعدته ليكون رئيسًا لكل المصريين لا يمنع أنه كانت هناك مرارات وملاحظات تتراكم مع الوقت، ولعل أولى هذه المرارات كان فى أكتوبر ٢٠١٣ حيث أقدم الإخوان على حماقة تنظيم احتفال بـ٦ أكتوبر دون دعوة قيادات القوات المسلحة! وكانت الحماقة الأكبر هى دعوة قتلة السادات من عائلة الزمر للاحتفال بالنصر الذى قاده من قتلوه.. وكان جرس الإنذار الأكبر أو الأحمر قد دق بعد احتفالية الإخوان لإعلان الحرب على سوريا.. حيث حضرها عدد من مشايخ التكفير ودعاة السلفية الجهادية ومعهم محمد مرسى.. الذى أعلن قطع العلاقات مع سوريا.. وشجع المصريين على التطوع للحرب تحت ألوية الإرهاب هناك ولوّح بأن الجيش يمكن أن يحارب فى سوريا.. وهو أمر يتعارض مع ثوابت الأمن القومى منذ عهد الفراعنة وحتى الآن.. فسوريا ومصر كانتا بلدًا واحدًا.. والحفاظ على كيان الدولة السورية حفاظ على أمن مصر.. ونحن نسمى جيوشنا بالجيش الثانى والثالث لأننا تركنا الجيش الأول فى سوريا عقب الانفصال بين البلدين.. ومع ذلك ظل الجيش يعترف بشرعية الرئيس.. وقد تابعنا فى الحلقة السابعة والعشرين وقائع اجتماع المشير السيسى مع محمد مرسى وما طلبه منه من ضرورة فتح صفحة جديدة مع المصريين والاعتذار لهم عن ممارسات الإخوان خلال العام الذى انقضى وأن يطرح مبادرة صريحة وصادقة للتصالح مع القوى السياسية وتغيير الوضع قبل مظاهرات ٣٠ يونيو التى أعلنت القوى السياسية عن نيتها القيام بها.. وكان رد فعل مرسى فى الاجتماع هو التجاوب وإعلان أنه يريد إنهاء حالة الاحتقان حتى يفرغ للتحديات التى تواجه البلد.. ليجيبه الرئيس السيسى بأن حالة التحديات ربما تكون أكبر من الحكومة ولكنها ليست أكبر من الشعب ولا من الدولة.. وأظن أن المعنى هنا بين السطور.. وهو أن مرسى لو أنهى حالة الاحتقان فستتوحد كل الجهود لهزيمة التحديات.. والحقيقة أن مرسى فى اجتماعه قبل الأخير مع الفريق السيسى وقتها وافق على كل كلامه، وقال إنه مقتنع بمطالبه وإنه يفكر فى تغيير الحكومة والنائب العام الذى اعترضت عليه السلطة القضائية، ووعده بأن يضمن كل هذا فى الخطاب الذى كان سيلقيه أمام كوادر حزب الحرية والعدالة فى قاعة المؤتمرات الكبرى بمدينة نصر!.. لكن الإخوان حولوا دفة مرسى مائة وثمانين درجة وأخبروه بأنه لن يعتذر.. ولن يعلن تغيير الحكومة.. ولا إقالة النائب العام.. وأن الناس هم الذين يجب أن يعتذروا للإخوان بدلًا من أن يعتذر الإخوان للناس.. وهكذا صعد مرسى إلى المنصة بذهن غير مرتب ومشاعر متضاربة، فأخذ يرسل رسائل مضادة لفكرة المصالحة التى نصحه بها المشير السيسى والتى كان يرى أنها ضرورية للحفاظ على البلاد.. وراح يتحدث بالأسماء عن أشخاص يتهمهم بالتآمر ويعزو انقطاع الكهرباء لحصول الموظف على «عشرين جنيه» رشوة كى يفصل الكهرباء وينصرف إلى منزله! رغم أنه اتضح بعد سقوط الإخوان أن الحاجة ماسة لمحطات كهرباء جديدة وتم بناؤها فى زمن قياسى.. ولعل هذا هو التفسير الشهير للتعبير الذى رسمه المشير السيسى على وجهه وهو يستمع لخطاب مرسى الذى جاء مزيجًا من الدهشة والغضب والتوعد.. حيث نرى اللواء عباس كامل، مدير مكتبه، وهو يبدى تخوفه من ذهابه لهذا الاجتماع الحزبى هو وقادة الأفرع، حيث يرد المشير السيسى بأنه لا يتراجع عن اتفاقاته ولا يخشى سوى من الله، ولعل ما قاله مرسى فى هذا الخطاب كان القشة التى قصمت ظهر البعير والنقطة التى جعلت الكأس تمتلئ ليتغير تاريخ مصر والإخوان بعده وإلى الأبد.