دعوة لحوار حضارى
أكتب قبل ساعات قليلة من حفل إفطار الأسرة المصرية.. وفق ما هو معلن، سيعلن الرئيس السيسى عن تفاصيل دعوته الهامة للحوار السياسى.. هذه التفاصيل سبقتها أخبار الإفراج عن أعداد مقدرة من المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا لها طابع سياسى.. قبلها كان الرئيس قد صرح بأن الحوار السياسى خطوة طبيعية بعد الانتهاء من الإصلاح الاقتصادى.. بشكل عام الحوار السياسى خطوة منطقية بعد أن انتهت مصر من السيطرة على التحديات الأمنية والإقليمية وفرضت حالة من الاستقرار على الوضع الداخلى.. تراجع الإرهاب وتمت السيطرة عليه وعلى من يؤيدونه وبات بعضهم يتمنى لو يرضى الشعب عنهم بأى طريقة وبأى ثمن.. المشاريع القومية سارت فى طريقها وأصبحت حقيقة ملموسة رغم سوء الحظ القدرى الذى داهم الكوكب كله عبر وباء كورونا والحرب فى أوكرانيا.. أدى هذا لمصاعب اقتصادية لا جدال فيها، ومن شأنه أن يؤخر قدوم الاستثمارات التى كنا ننتظرها ونعد مصر كى تكون مركزًا إقليميًا لها.. لكن الحقيقة أيضًا أن مصر تشبه مريضًا كان يشارف على الموت وأدخله الطبيب غرفة العمليات وفى منتصف العملية انقطعت الكهرباء.. الحل ليس طبعًا أن نوقف إجراء العملية.. لأن هذا يعنى أن المريض سيموت.. الحل أن نحضر مولدًا كهربائيًا ونكمل إجراء العملية حتى لو أجريناها فى ظروف أصعب.. لا بد أن نكمل ما بدأناه حتى لا تضيع كل الجهود المبذولة منذ ٢٠١٤ هباءً.. من الطبيعى جدًا فى حالة الأزمات الاقتصادية أن تحاول قوى خارجية وداخلية لانتهاز الفرصة.. كل نظام وطنى له أعداء.. كل حاكم يحافظ على كرامة بلده سيجد من يتربص به.. الذين أزعجهم أن تكون مصر رقمًا كبيرًا فى الإقليم وفى العالم سيحركون أذنابهم.. هنا.. وهناك.. فى كل موجة للمؤامرة يظهر عميل كان مرميًا فى غياهب النسيان.. يؤدى دورًا معينًا.. وينقل رسائل تكتبها له الجهة التى تموله.. قبل يناير كان هناك عقيد شرطة مفصول يلعب هذا الدور من دولة غربية.. الآن هناك وجه آخر مشبوه وذو رائحة نتنة.. هذه الوجوه المشبوهة تذكرنى بعميل عراقى كان يدعى أحمد الجلبى.. كان يقيم فى أمريكا ويستعدى الجميع ضد بلده وشعبه.. دخل مع الجيش الأمريكى كعميل محلى.. وظل يحظى باحتقار الجميع بمن فيهم الأمريكان أنفسهم حتى مات غير مأسوف عليه.. الجلبى هذا كان يبدو وهو يتحدث من أمريكا مناضلًا شريفًا من أجل الحرية.. لكن الزمن وحده كشف حقيقته كعميل مخابرات حقير وجاسوس ضد بلده.. التاريخ وحده كفيل بكشف كل شىء سواء فى الماضى أم فى الحاضر.
أعود لدعوة الرئيس للحوار السياسى، وأقول إننى لا أريد لعاطفتى تجاه الرئيس وهى عاطفة احترام وتأييد قوية أن تلغى رغبتى فى نقاش هذه الدعوة.. ما هو المقصود بالحوار السياسى؟ وهل سيحضره نفس الأشخاص الذين نراهم على الساحة منذ التسعينيات؟ هل سيحضره مائة واثنان حزب مصرى لا يعرف الناس أسماء معظمها.. هل سيحضره كل من يسمى نفسه ناشطًا أو سياسيًا؟.. لا يعنى هذا التقليل من فكرة الحوار لا سمح الله ولكن يعنى أن علينا أن نبحث عن صيغة جديدة لها طابع علمى.. يمكننا أن ندعو لمؤتمر سياسى أكاديمى فى جامعة القاهرة مثلًا.. يقدم الراغبون لحضوره أوراقًا ذات طابع علمى لاقتراحات واضحة للإصلاح تتماشى مع الواقع المصرى وتتم مناقشتها بشكل موضوعى وأكاديمى من خلال رئاسة المؤتمر واللجنة المشرفة عليه.. من ناحية أخرى أظن أننا فى حاجة لحوار «حضارى» يسبق الحوار السياسى.. إن مشكلتنا الكبرى كما رأيت خلال ٢٥ عامًا أننا انشغلنا بالسياسة عن الحضارة.. فالأحزاب القديمة فى زمن مبارك كانت لا شاغل لها سوى إلغاء قانون الطوارئ وتخلى مبارك عن رئاسة الحزب الوطنى.. وعندما ظهرت المعارضة الجديدة بعد ٢٠٠٥ ظنت أن الحل هو تغيير مبارك وحل الحزب الوطنى.. وعندما ابتلانا الله بالإخوان أدركنا أن الحل يكمن فى إقصاء الإخوان.. الآن يكرر إعلامى شهير يتحدث باسم رجال الأعمال كل يوم فكرة أن الاستثمار الخاص لن يطمئن ويعمل إلا بإتاحة قدر كبير من الحريات السياسية.. كلام جميل.. ولكنه استمرار لنفس المنهج الذى يختصر كل شىء فى شعار سياسى واحد.. ويخدع الناس ويوهمهم بأن كل شىء سيصبح على ما يرام لو نفذنا هذا المطلب السياسى.. تعالَ نفكر بالعقل.. لو جاء الاستثمار الغربى والخاص بالمليارات.. ماذا سيفعل كى يزيد الناتج القومى؟ الإجابة المنطقية أنه سينشئ صناعات ومصانع.. جميل جدًا.. هل نحن جاهزون لذلك حضاريًا؟ هل يؤمن المائة مليون مصرى بالبحث العلمى كطريقة لتطوير الصناعة يوميًا كما يفعل الغرب.. هل لدينا ثقافة الإيمان بالعلم؟ هل لدينا ثقافة العداء للخرافة؟ هل لدينا رفض للمسلمات والخرافات؟ أم أن الملايين منا ما زالوا يؤمنون بالجن والعفاريت.. هل نحترم العمل؟ هل نعمل مثل اليابانيين مثلًا؟ مثل الألمان؟ مثل الإنجليز؟ كيف سننافسهم إذن؟ هذه هى تحديات الحضارة التى تحتاج منا لحوار حضارى ممتد إلى جوار الحوار السياسى وإلا فإننا نعيد الكرة مرة أخرى ونكرر نفس السيناريو منذ عام ٢٠٠٠ حتى الآن.. ولن نصل إلى شىء فى نهاية المدى.