التنمر على مذهب برامج المقالب
ما المضحك فى التنمر الصريح والصراخ المتواصل؟.. سؤال وحيد يدور فى رأسى وأنا أشاهد برامج المقالب المصرية، بالنسبة لى.. لا أجد إجابة مقنعة، رغم أنه من المفترض أن هدف صناعة هذه البرامج هو الإضحاك، اللافت أن التسمية أصبحت أصلًا غير صحيحة، إذ اعترف معظم ضيوف تلك البرامج علنًا بمعرفتهم المسبقة بالمقلب، وبالتالى وباعترافهم هو مشهد تمثيلى، ليست هذه هى المشكلة.. ببساطة لأن كل الأطراف راضية.. القنوات المنتجة، الضيوف، المشاهدين.
فى النهاية أجمعت الاعترافات على أن تفاصيل المقلب غير معروفة، وبالتالى فالصراخ ليس مصطنعًا، وهو ما حوّلنا إلى شركاء فى حياكة المقلب للضيف المرعوب أمامنا على الشاشة، تزداد صرخاته فتعلو ضحكاتنا! فى علم النفس هى سادية، أى الاستمتاع بإيذاء الآخرين سواء جسديًا أو معنويًا، الضحايا هنا أيضًا مشاهير بمعنى «قابضين كتير» وبالتالى متعة التشفى أشهى، فى النهاية سيُخرج الضحية طاقة غضبه ببعض الشتائم والشلاليت، ونُخرج نحن طاقة الغل وضغوط الحياة من خلال الاشتراك معنويًا فى إرعاب بعض البشر، خاصة أنهم سيتقبلون كل هذا الرعب فى النهاية تحت مسمى الهزار.
تلك الثغرة السحرية التى تمرر فى الثقافة المصرية بسلام تام شتى أنواع الإهانة والتنمر، وهو ما نراه فعلًا فى نفس البرامج.. بقرة.. خرتيت.. سَلَبة.. نماذج من الأوصاف التى يتم إطلاقًا على الضيوف بخلاف كل أشكال المعايرة بأشكالهم وأجسامهم ومستوياتهم الاجتماعية والتعليمية.
دعونا نسمّى الأشياء بمسمياتها، هو تنمر صريح يُمرَّر من ثغرة الهزار، أرحب بأى اجتهاد مقنع باعتباره أى شىء آخر، المشكلة هنا هى الشراكة المتحققة بيننا كمشاهدين وبين ما يجرى على الشاشة بحكم استماعنا لوصلة التنمر دون علم ضحيته، والذى ولمرة أخرى سيتقبل كل ما سمعناه مرورًا من نفس الثغرة التى اتسعت تمامًا لتذوب الفروق بين الإيذاء والاستهزاء وبين الاستظراف والهزار، المشكلة الأكبر أن الإلحاح على الناس ليتجرعوا تلك المفاهيم على مدار سنوات شوّه سلوكيات أجيال لم تعد تدرك فعلًا هذا الفارق.
ليس تنظيرًا.
جولة سريعة بين حوادث الترندات الأخيرة على السوشيال ميديا ستؤكد لك ما أقول، ربما أبرزها حادثة هشام زكريا، مدير إحدى شركات السياحة الشاب الذى قذفته مجموعة من المراهقين بأكياس المياه فى الشارع، مجرد هزار على مذهب برامج المقالب، إلا أن القدر لم يمهل الضحية كثيرًا ليتقبل المقلب فى نهايته.
فقد مات وهو يركض خلف صُنّاعه من فرط المجهود والانفعال، الجهات المسئولة أدّت دورها، خلال ساعات قبضت على الجُناة المحبوسين الآن على ذمة القضية، لا أنكر أن للتربية دورًا رئيسيًا، لكن هل انتهت القصة؟ هل يمكن اعتبارها حادثة عارضة أو فردية؟ تعليقات الحادثة على مواقع التواصل تنفى ذلك، معظم أصحابها يميلون إلى عدم تضييع مستقبل المراهقين المتهمين، لأنه فى النهاية، هزار، نحن إذن نواجه رؤية عامة، أسسًا تلاشت لدى الجميع.
أذكر الممثل إبراهيم يسرى.. أحد أوائل مَن قدموا الكاميرا الخفية فى الثمانينيات، بمشاهدة حلقاته المتاحة على «يوتيوب»، ستكتشف ما كانت عليه من بساطة واحترام للناس، مواقف كوميدية تستهدف مجرد ردود أفعال، لا شك أن صخب الحياة كان أقل كثيرًا، وتطور تلك البرامج يعكس ما غيّرته فينا ضغوط الحياة التى أفقدتنا مساحات شاسعة من السلام النفسى.
فأصبح الصراخ مضحكًا والتنمر مسليًا، الغريب هو افتقار تلك البرامج للابتكار، فبينما كان إبراهيم نصر يقدم ثلاثين فكرة مختلفة طوال رمضان بموهبة كوميدية فذة وتفاصيل متقنة، نرى برامج هذه الأيام تقدم نفس الفكرة لثلاثين يومًا بشكل شبه متطابق كل عام مع تغيير مسرح المقلب.
هذا العام.. ولأول مرة، تفقد تلك البرامج موقع صدارة المشاهدة، إذ أشارت التقارير إلى انصراف المشاهدين عنها بنسبة ٧٠٪ عن العام الماضى، التكرار والتشبع كان أبرز الأسباب، لكن السبب الفارق هو وجود بدائل جيدة لمحتوى كوميدى متقن: مثل «مين قال».. «أحلام سعيدة»، وطبعًا.. «الكبير ٦»، أعمال جيدة صُنعَت بحرفية وموهبة، أكدت على أن العملة الصحيحة تطرد السيئة، وأن إيجاد البديل الجيد هو الوسيلة الأكثر فاعلية فى صرف الناس عن الرداءة، وعمل مقلب مستحق فى الاستسهال وانعدام القيمة والإبداع.