العائدون.. بين الواقع والخيال
تاريخ المؤامرة على الوطن العربى على الشاشة
التأريخ لكواليس المؤامرات على المنطقة العربية انتقل من «الكتب» كوسيلة للمعرفة إلى «المسلسلات» كوسيلة أكثر إيصالًا للرسالة
المسلسلات لا تصنع الوعى بشكل مباشر.. لكنها تتيح لنا المعرفة التى يتفاعل معها العقل فيصنع الوعى وهذا ما يفعله مسلسل مثل «العائدون»
تنظيم داعش واحد من أكبر المؤامرات فى تاريخ الوطن العربى وكشف أسراره يقول لنا الكثير عمّا تم تدبيره لنا
جذبتنى أحداث مسلسل «العائدون» بشكل لم أكن أتوقعه.. جزء من الانجذاب له سبب مهنى وهو الاطلاع على الأسرار التى يذيعها المسلسل.. دائمًا ما كانت كواليس السياسة وأسرارها مادة جذابة للصحافة.. فى الثمانينيات والتسعينيات قرأنا للأستاذ هيكل كواليس الصراع فى الشرق الأوسط عبر سلسلة كتب أشهرها ثلاثيته التى روى فيها أسرار المعارك الثلاث التى خاضتها مصر.. جرت فى النهر مياه كثيرة وأصبحت الشاشة لا القلم هى الوسيلة الأهم والأكثر وصولًا للملايين.. الأستاذ هيكل نفسه أدرك هذا ولجأ فى سنواته الأخيرة للظهور عبر الشاشات المختلفة للوصول برأيه للناس.. أظن أن مسلسلات مثل «العائدون» و«الاختيار» و«هجمة مرتدة» تمارس التأريخ بنفس الطريقة.. تروى الأسرار عبر الشاشات لتصل جرعة الوعى للناس.. الوعى ليس هو الدعاية السياسية ولا «البروباجندا» كما يشيع بعض أنصاف المتعلمين ومدعى الثقافة.. الوعى نتاج المعرفة.. وإتاحة المعلومات هى إحدى طرق صناعة الوعى.. المعرفة هى المادة الخام للوعى.. العقل يتعامل مع المعلومة التى يقدمها مسلسل ما أو كتاب ما ويفكر فيها وينقدها.. يرفضها أو يقبلها.. ونتاج هذا التفاعل هو الوعى.. المعلومات الزائفة التى روجها الإخوان وصبيانهم سنوات طوالًا صنعت وعيًا زائفًا.. والمعلومات الصحيحة من شأنها أن تصنع وعيًا مختلفًا.
أحد عوامل الجاذبية فى مسلسلات المخابرات عمومًا، وفى «العائدون» على سبيل التخصيص، أنه يتحدث عن عالم يبدو للآخرين غامضًا.. فهو قائم على السرية وإنكار الذات والتخفى وعدم التفاخر وهى صفات لا يملكها كل الناس.. إننا نعرف أن هناك جهازًا اسمه المخابرات المصرية.. لكننا لا نعرف ماذا يفعل؟.. ما هى معاركه؟ ما هى الأخطار التى يواجهها؟ ما هى التحديات التى انتصر عليها؟.. ولو عرفنا فإن هذا معناه أن هناك شيئًا خاطئًا لذلك يجب ألا نعرف.. هذا الغموض كان سببًا فى تشويه جهود عظيمة بذلها هذا الجهاز فى الستينيات.. التشويه كان نتاج عوامل مركبة.. أولها صراع داخلى عقب نكسة يونيو ورغبة الزعيم جمال عبدالناصر فى تحميل مسئولية الهزيمة لطرف واضح.. وثانيها وفاة عبدالناصر وتصدٍ صحفى كبير لمهمة تشويهه بالتعاون مع قوى دولية وإقليمية اتهم بالعمالة لها والتجسس لحسابها.. تم استغلال واقعة واحدة غير أكيدة فى تشويه جهد مئات الرجال الذين خاضوا معارك مصر من سواحل إفريقيا حتى أحراش بوليفيا وأمريكا اللاتينية.. كانت الدراما هى الحل المناسب لإيصال جانب من بطولات المخابرات العامة المصرية بعد انتهاء موجة التشويه الرخيصة أو بالتزامن معها.. عرف المصريون جانبًا من قصة أحمد الهوان الذى صار جمعة الشوان، ورفعت الجمال الذى صار رأفت الهجان.. أعمال اختلط فيها التشويق بالعواطف بالرسائل الوطنية وأصبحت جزءًا من ذاكرة أجيال كاملة.
كم المؤامرات والمخططات الذى شهدته المنطقة العربية منذ التسعينيات حتى الآن لا يمكن تصديقه.. يمكنك أن تقول إن المنطقة تم «ضربها فى الخلاط» عدة مرات.. دول تم إسقاطها.. جيوش عظيمة تم تفتيتها وحكام تم تشويههم والتآمر لقتلهم.. مئات المليارات أنفقت لإسقاط دول لو كان تم إنفاق ربعها على التنمية لكانت المنطقة العربية من أعظم أقاليم العالم.. من بين فصول هذه المؤامرة ما ترصده حلقات «العائدون» من تأسيس تنظيم داعش الإرهابى بمساندة دول إقليمية.. الحلقات لا تقول لك أسماء هذه الدول لكنها تتركك لتخمن ما هما الدولتان غير العربيتين صاحبتا المصلحة فى هز استقرار الدول العربية؟ من صاحب المصلحة فى تفتيت دولة عربية مثل سوريا؟ من صاحب المصلحة فى القضاء على أى أمل فى استقرار العراق؟ من صاحب المصلحة فى تصدير الإرهاب لمصر وشغل الدولة عن مخططات التنمية بحرب عصابات مدبرة فى سيناء؟.. إن مصر الآن تجمعها علاقات ودية بالجميع بعد أن قطعت كل خيوط المؤامرة خيطًا خيطًا.. لكننى عندما راجعت الأرشيف الصحفى وجدت تقارير موثقة وهامة تتحدث عن العلاقة بين حزب العدالة والتنمية وبين داعش.. لقد صرح إيمانويل ماكرون، وهو رئيس دولة كبرى، بتلك الاتهامات صراحة وعلى رءوس الأشهاد وإن كان الجانب التركى قد أنكر الاتهامات بطبيعة الحال.. أشارت تقارير أخرى إلى تورط أقارب مسئولين فى دولة مجاورة لسوريا فى تجارة النفط مع داعش.. وأن هذا كفل لكلا الطرفين مراكمة ثروات بمئات الملايين من الدولارات وهو ما أدى لأن يوصف «داعش» بأنه أغنى تنظيم إرهابى فى العالم.. قالت تقارير صحفية أيضًا إن هناك عدة أسباب دفعت هذه الدولة المتاخمة لسوريا لخلق تنظيم داعش، منها مثلًا استخدامه ضد الأتراك فى كل من سوريا والعراق وتركيا.. حيث يشكل الأتراك عدوًا تاريخيًا لنظام الحكم فى هذه الدولة.. ويشكل أكراد العراق وسوريا ظهيرًا استراتيجيًا لغيرهم من الأكراد فى المنطقة.. لذلك ارتكب تنظيم داعش كل تلك الفظائع ضد الإيزيديات وهن أكراد من سكان جبل سنجار فى شمال العراق.. الاغتصاب والقتل والبيع كإماء فى الأسواق كان الهدف منه ترويع سكان هذا الجبل وإجبارهم على الهجرة منه.. من ضمن الأسباب أيضًا تنفيذ مخططات إقليمية وأخرى لأحلاف غربية تعد هذه الدولة اللغز عضوًا مهمًا فيها.. من ضمنها أيضًا تنفيذ مخططات لتفتيت الدول العربية وإحاطة إسرائيل بعدة دويلات صغيرة لا تشكل أى منها خطرًا على أمن إسرائيل، وهى فكرة قديمة طرحها ديفيد بن جوريون أحد مؤسسى دولة إسرائيل.. وهذا يقول لك لماذا تم إرسال فلول داعش لسيناء، ولماذا تغير اسم الإرهابيين فى سيناء من «أنصار بيت المقدس» وهو اسم عام كما ترى إلى «ولاية سيناء» وهو اسم يبشر بانفصال سيناء وفق أضغاث أحلام الإرهابيين ومن خطط لهم ومن يحركهم.. «العائدون» يطرح على المشاهد رءوس أقلام ويحفزه على أن يبحث بين السطور ليعرف أكثر.