ناس مش عارفة ربنا
ناس مش عارفة ربنا.. تلك هي الوصمة التي التصقت بنا بسبب تحذيراتنا المتتالية من فتاوى بعض رجال الدين، التي طالما ألقوا بها حطبًا لنيران تطرف شرس، كان يمكن تفادي خسائره التي ما زلنا نسدد ثمنها حتى الآن.
المفارقة أن أصحاب تلك الفتاوى منحونا من جعبتهم عدة نعوت.. فأحيانا نحن ليبراليون.. وأحيانا علمانيون أو متحررون.. المهم هو أن يصنعوا لنا أقنعة منفّرة يرانا العامة من فوقها ناس بتكره الدين.. أو مش عارفة ربنا، بالنسبة لي.. لم أنشغل يوما بأكثر من إرضاء ضميري فيما أكتب أو أقول، الفزع الحقيقي كان يتملكني عند صدور فتاوى هي بحق بذور إرهاب صريح يغرسها أصحابها بدم بارد في عقول الملايين لنجني نحن ثمارها عنفًا وتخريبًا وقتلاً.
دعوني أذكر مثالا: عبد الشافي رمضان.. هل تذكرون هذا الاسم؟ إنه قاتل المفكر المصري الراحل فرج فودة سنة 1986، أصابه بطلقات نارية من رشاش آلي جوار مكتبه.. ما دافع القتل؟ كان هذا هو السؤال في محكمة أمن الدولة، ليجيب الجاني بأن الراحل كان مرتدا.. قبل أن يسأله القاضي مرة أخرى عما قرأه المتهم لفودة، استخلص من خلاله أنه مرتدـ لتأتي الإجابة المفاجئة بأنه لا يقرأ ولا يكتب!
بل إنه استمع لفتوى تفيد بارتداد فودة، استجاب بناءً عليها لتكليف بقتل المجني عليه من قبل صفوت عبد الغني القيادي بالجماعة الإسلامية صاحب السجل الحافل بالتحريض والمشاركة في وقائع التخريب والقتل، وهو ما شفع له عند الإخوان لتعيينه عضوا في مجلس الشورى قبل أن يهدد بالانتقام المروع إذا لم يعد مرسي رئيسا للجمهورية أو إذا تم المساس بأحد قيادات الجماعة وهو ما تم توثيقه بالصوت والصورة وإتاحته على "يوتيوب" علنا حتى الآن.
مشهدٌ مهم لا بد لنا من العودة إليه في محاكمة قاتل فودة هو وقوف الشيخ محمد الغزالي في ساحة المحكمة التي أتاها متطوعًا لا مطلوبًا، ليعلن "إن فرج فودة بما قاله وفعله كان في حكم المرتد.. والمرتد مهدور الدم"، مؤكدا أن جرم الجاني ليس القتل، بل فقط تجاوز سلطة الحاكم.. إلا أنه حتى ذلك التجاوز شرّعه الدكتور محمود مزروعة، رئيس قسم العقائد بالأزهر في شهادته.
موضحًا أن قتل فودة من حق الجميع، بل إن قاتله سيكتب له الأجر والثواب لأنه أعفى الأمة من فرض قتل مرتد! تلك الشهادات التي رفضتها المحكمة شكلاً وموضوعًا لتصدر حكمها بإعدام القاتل.
بتتبع الخيط.. سنعثر في امتداده على أبو العلا عبد ربه، صاحب مهمة توفير السلاح المستخدم في اغتيال الفقيد ليخرج بعد 21 عاما من السجن بعفو رئاسي فترة حكم الإخوان- قبل أن ينضم لتنظيم داعش في سوريا ويُقتل هناك- مؤكدًا في حوار مصور ومتاح على "يوتيوب" بأنه غير نادم على توفير السلاح لإتمام عملية اغتيال فودة التي شارك فيها بناء على فتوى لابن تيمية تفيد بأن المرتد يقتل حتى لو استتاب! دون أن يوضح أيضا ما قرأه من كتابات المفكرالراحل لتؤكد ارتداده ومن ثم تستوجب قتله.
هل نحتاج لمثل آخر.. لِمَ لا؟ لنأخذ صاحب المطواة المُخترِقة عنق نجيب محفوظ، والذي كان أيضا لا يقرأ ولا يكتب حسب ما أكده أشرف العشماوي، وكيل النيابة المكلف بالتحقيق معه آنذاك مضيفًا أن المتهم كان غير متأكد من اسم الأديب الراحل، إذ كان يذكره طوال التحقيق بقوله: محفوظ نجيب!
مشيرا إلى أن جريمته كانت عقابًا على ما كتبه محفوظ في رواية أولاد حارتنا، فقد اعتبره كُفرًا يستوجب حد القتل وفق فتوى الشيخ عمر عبد الرحمن! وهو ما لم يختلف عنه كثيرا تعبير حازم صلاح أبو إسماعيل منذ سنوات قليلة بأنها رواية "إجرامية" أو عبد المنعم الشحات بقوله إن ما كتبه أديب نوبل هو أدب دعارة يحض على الرذيلة مطالبا الجهات المسئولة بإلغائه!
هل انتهت أمثلتي؟ بالطبع لا.. لأنها لن تنتهي.. كتب التراث زاخرة بفتاوى كارثية.. تكفير المسيحيين.. فرض الجزية على غير المسلمين.. قتل تارك الصلاة.. تلك الأخيرة التي نقلها وأيدها الشيخ الشعرواي والشيخ عبد الله رشدي وغيرهما في لقاءات مصورة بخلاف كتابات لا تزال تعتبر دساتير للإرهاب ومراجع للقتلة مثل معالم في الطريق لسيد قطب والفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج وغيرهما.
هل نحرق تلك الكتب على طريقة معارضي ابن رشد في فيلم المصير؟ الحل الواقعي والمؤثر هو تفعيل مبدأ أن ما يقوله وينقله هؤلاء هو تأويلات بشر للإسلام وليس الدين ذاته، وأن الله نفسه يبغض التلقين والصلف وإيقاف العقل، ويحض على التدبر والبحث والنقاش، حتى لو جعلنا في نظر من لا يعي.. ناس مش عارفة ربنا!