الضعيف والصفعة
عندما يلجأ الفرد لآلية الضرب، وهي عادة ما تكون آلية دفاعية نفسية تأخذ شكل الهجوم، يكون ذلك تعبيرًا عن ضعف وهشاشة داخلية تعكس حالة من العجز والشعور بقلة الحيلة وعدم المقدرة على المواجهة أو الحوار، فالضرب هو سبيل الضعفاء الأمثل في التعبير عن ذواتهم، وهو حل مثالي سريع وفعال للتخلص من الشعور بالعجز.
فبالضربة القاضية يسترد الضعيف عافيته من كآبة الاحساس بالعجز والهشاشة، وهو إحساس مؤلم بلا شك، ولكن وبالمقابل الضرب جريمة وسلوك معوج ومجرّم وغير سوي أو قويم، والتساهل معه يرسخ لقبول الجرائم ومن ثم التطبيع معها، ويرسخ أيضًا لثقافة الغوغاء والهمجية والتي تعود بنا لعصور ما قبل الحضارة عندما كان المعيار ومقياس التفاضل هو قوة الجسد والتعامل به ومن خلاله فقط، دون اتباع رشد العقل وما يستوجبه ويفرضه من طرائق رشيدة تدلل على الاتزان والسلام النفسي واتباع منهجية ومنطق سليم بدلًا من أن يكون العقل عضوا معطلا يتواجد بالرأس الذي يتشكل من جمجمة وعظام يبطح به الضعيف عظام وجمجمة غيره، وعندئذ يصبح العقل مجرد عظام يكسوها اللحم وتحركه الغرائز والمشاعر غير السوية.
وهذا تمامًا ما حدث مؤخرًا مع النجم العالمي الشهير «ويل سميث»، والذي تعطل وشُل عقله بسبب نوبة غضب، فاستخدم ذراعه في صفع المذيع الشهير في حفل الأوسكار وعلى رءوس الاشهاد! مرتكبًا جريمة مكتملة الأركان توصيفها القانوني هنا وهناك وعالميًا «جنحة ضرب»، أعقبها «سب علني» مورس أيضًا على رءوس الاشهاد! فعندما غاب العقل صاح اللسان وتحرك الذراع ولوح به في الهواء فأصاب وجه من يقف على خشبة المسرح، ونسي تمامًا النجم الكبير أن العيون والآذان والكاميرات ترصده في العالم كله وأن له متابعين وجماهير من شتى بقاع الأرض بل وله معجبون تناقصوا بلا جدال أو- وعلى أقل تقدير- حبسوا أنفاسهم وهم يشاهدون نجمهم المفضل في وضع مخل بالآداب والأخلاق والقيم، وقد تجرد من كل وعي أو إدراك لخصوصية الموقف واللحظة، فالوضع المخل والخادش للحياء وللنفس هو وضعية إنسان يعتدي على غيره بهمجية وبربرية وعنجهية تعود للعصور الوسطى وما قبل الحداثة.. بل ويشهد العالم كله على ذلك!
وفي حين يعتقد آخرون أن الملابس أو المشاعر العاطفية هي من تخدش الحياء! بيد أنه لا يوجد شيء مخجل ومعيب أكثر من اعتداء شخص على آخر، لذلك أقر «سميث» بجريمته واعترف بأنها لا تبرر ولا تغتفر.. فالجرائم حقًا لا تبرر ولا يمكن تمريرها ويكون العنف تجاه الآخرين جريمة مخلة بشرف صاحبها وصورته الذهنية في عيون الآخر، ولا أدري في حالتنا هذه إن كان الاعتذار كافيًا لطي تلك الصفحة في حياة «سميث» الشخصية والعملية، رغم أنني على يقين من أن تلك الواقعة سيتذكرها جميع من سوف يتعاملون لاحقًا مع النجم الشهير أو يرونه، إلى جانب تسجيل التاريخ تلك الواقعة، فالتاريخ لا ينسى، والفضل أيضًا كان للكاميرا التي وثقت لحفل الأوسكار وجائزة النجم، وهي ذاتها التي وثقت جريمة «سميث» وجعلتها فضيحة علنية عالمية مدوية للنجم الذي حمل جائزة الأوسكار في يده التي صفع بها ابن البلد الذي جعله «إبراهام لينكولن» ملاذًا لهم من بطش العنصرية والعنف والغبن، وشهد على تلك الواقعة المخجلة جميع الحاضرين.
ونددت الأكاديمية الأمريكية التي تمنح جوائز الأوسكار بما حدث، وصرحت بأنها راجعت ملابسات الواقعة بشكل رسمي، وأخطرت «سميث» بأنها خلال 15 يومًا ستصوت بشأن الانتهاكات التي اقترفها والعقوبات التي ستفرض عليه، وأنها ستستمع إليه من خلال رد مكتوب، ولم تكتفِ ببيان الاعتذار التي صدر عنه، بل إنه يوم 18 أبريل المقبل سيصدر القرار بشأن إصدار قرار تأديبي تجاه النجم الهوليوودي الحاصل على جائزة الأوسكار لهذا العام، وقد يشمل الإجراء نزع الجائزة عنه، وقد أجبر بالفعل على الاستقالة من الأكاديمية، وعلى ما يبدو أنها لن تكتفي بهذا القدر، وينتظر «سميث» الآن عقوبة أكبر، وقد تعرض بالفعل لعقوبات فنية وفسخت له عقود أفلام، وبالتالي فالأمر لم يمرر حتى بعد اعتذاره واستقالته، فالنجومية وجائزة الأوسكار لم تشفع للنجم الفائز.
العنف شيء مرفوض جملةً وتفصيلًا، وتصديره بمجانية على أنه أمر عادي لم يعد شيئًا مقبولًا ولن يكون مقبولًا، وعلى الجميع أن يدركوا ذلك، وإن كانت أفلام هوليوود قد رسخت للعنف والجريمة وامتد الأمر ليشمل المجتمع أو ربما كان العكس وأفرز المجتمع تلك النوعية وتلك الأنماط من البشر، فلا فرق هنا بين من قتل «جورج فلويد»- في رأيي- ومن صفع المذيع على المسرح، فكل منهما يشعر بالعجز حتى وإن كان في موضع أو موقع قوة فعجزه يطفح دومًا على السطح على هيئة سلوك عشوائي يعبر عن الخواء الداخلي، وأن هنالك شيئا مظلما وسوداويا وكريها داخل النفس يتم التنفيس عنه بالسلوك العنيف.
وإن ظن البعض أو رصدوا اللحظة وجعلوها تعبيرًا عن حب عميق واعتزاز من النجم الأسمر لزوجته! ففي اعتقادي أن ذلك التفسير عارٍ تمامًا من الصحة، بل أراه عكس ذلك، وأعتقد أن عدم قدرة «سميث» على التنفيس عن غضبه تجاه زوجته هو ما جعله يفعل ذلك بغيرها، مختلقًا الذرائع وأنها قد أهينت أمامه وأمام الجميع فكان لا بد من الرد! فالرد على الكلام يكون بمثله.
أما ما حدث فيدل على أنه لم يستطع أن يغفر لها ما كان وما عايشاه سويًا من أزمات، ثم جاءت محنة مرضها، والتي دفعته بالتأكيد ليكون أكثر قربًا وحنوًا بها وعليها- ربما مضطرًا- ولاعتبارات أخرى كثيرة، ولكن ظلت تلك الأحمال بداخله تتراكم لتصبح أعباء لم يستطع تحملها فظهرت الصفعة الكبرى! وشاهدها بل تلقاها العالم بأسره! فـ«سميث» قد وجّه صفعةً لن تُنسى لنفسه أولًا وقضى بها على جانب كبير من شعبيته ونجوميته وبالضربة أو «بالصفعة القاضية»، وبعد أن كان له هو الحق صار عليه هو حقوق للغير.