مراكز التدريب (اللا) مهنى
أذكر في مرحلة الصبا أننا كنا نسعى كغيرنا لتعلم ما يفيد - أيًا كان هذا الأمر- غير عابئين بمردوده المادي أو مدى تأقلمنا مع هذا الذي نقبل على تعلمه وتلقيه بشغف وحب شديدين، وغالبًا ما كانت تلك المحاولات تنتهي بالفشل الذريع- ظاهريًا- لكنها ورغم الفشل تركت في أنفسنا خبرات جديدة لا شك أنها أضافت لنا وأفادتنا فيما مر علينا بعد ذلك من تجارب أو مواقف حياتية.
أذكر مثلًا أن وزارة الإسكان كانت قد نشرت في المحافظات عددًا من مراكز التدريب المهني لتعليم الشباب مهنًا مختلفة كالبناء والكهرباء والسباكة والنجارة والحدادة وغيرها، فكرة ممتازة بالطبع وهي كافية لتعويض النقص في الأيدي العاملة التي كانت قد تسربت إلى العراق وليبيا ودول الخليج فترة الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي.
لكن عند التنفيذ حدث ما يحدث عادة من إفشال المشاريع الجيدة بتدخلات تفرضها لغة المصالح، إذ استعان القائمون على التجربة بمدربين من الأفندية غير المؤهلين للقيام بالمهمة، حيث تم استغلال المشروع كفرصة لتوظيف أقرباء المسئولين ونواب ذلك الزمان، فوقع الاختيار على عدد من المدربين الذين لا يعرفون في تفاصيل المهنة أكثر من المتدربين أنفسهم.
وكانت النتيجة بالطبع هي فشل المشروع رغم ما كان فيه من المغريات للإقبال، حيث مصروف جيب يومي ومعونات غذائية من هيئة المعونة الأمريكية علاوة على هدية التخرج، وهي صندوق معدني يحتوي على كامل عدة الشغل التي يحتاجها الخريج المفترض تأهله عمليًا وورقيًا لممارسة الحرفة، لكن الخريج الذي كان يرغب في ممارسة المهنة كان يحتاج لمزيد من التدريب الحقيقي على أيادي الصنايعية الحقيقيين.
وعلى شاكلة هذا المشروع القديم ومع تطور العصر وآلياته أصبحنا نتابع مشاريع تدريبية مماثلة، لكنها احترفت العمل في مهن مرغوبة من الشباب كمهن الإعلام وفنون ذات عائد مجزٍ كالجرافيكس مثلًا، علاوة على مهارات تعتبر هي موضة العصر كمدرب التنمية البشرية مثلًا، وكما تغيرت أمور كثيرة في حياتنا فإن هذه المهن لم تعد تسعى لإغراء أحد بعرض محفزات غذائية أو مهنية كما حدث معنا قديمًا، بل على العكس تمامًا صار الشباب وأولياء أمورهم يتكبدون أموالًا طائلة في مقابل فرصة التدريب.
والغريب في الأمر أن معظم تلك الجهات التي تتصدى للتدريب ليست لديها الأهلية للقيام بالمهمة، صحيح أنهم أسسوا أماكن فيها من التسهيلات والإمكانيات المادية الكثير والكثير، لكن يبقى العنصر البشري والمتمثل في الخبراء الحقيقيين هو الأهم والأنفع والأجدى، وللأسف وجدنا عددًا من المستثمرين يستثمرون في قطاع التدريب المفترض أنه يتصدى لتأهيل شباب لسوق العمل، ومن هنا دخلت مدخلات جديدة تسعى للمكسب دون النظر لمردود تلك المشاريع على المهن ولا على المتدرب نفسه.
وقد حضرت اتفاقات من هذا النوع مع عدد من المستثمرين الذين يمهدون لنجاح المشروع بتأسيس مقر مبهر ومزود بتقنيات مقبولة، وتأتي خطوتهم الثانية للإيقاع بالضحايا من المتدربين، إذ يبادرون بالاتفاق مع واحد أو اثنين من كبار نجوم الصنعة محل التدريب، ثم يكملون الهيكل التدريبي بنكرات ليست لديها المؤهلات المطلوبة لإدارة أنفسهم ويصبحون بقدرة قادر مسئولين عن تخريج شباب مفترض أنهم يمثلون مستقبل هذه المهنة أو تلك.
وفيما أرى فإن أكبر ضحايا هذه "السبوبات" هم هواة مهنة الإعلام من الشباب الراغب في صقل موهبته واكتساب مهارات حقيقية، بل الضحية الأكبر هي المهنة ذاتها، إذ إن المتدرب الذي يمتلك علاقات تدفع به لسوق العمل يدخل المهنة ظنًا أنه يعرف تفاصيلها ويمتلك أدواتها وتجده يتباهى بأنه خريج المركز الفلاني وأن مدربه هو النجم العلاني.
في حين أنه ينبغي عليه أن يتوارى خجلًا مما يحسبه مصدرًا للفخر، ثم تجده يقدم مخرجات مهنية مخجلة غير أنه قد يكون محظوظًا إذا أكرمه ربه بالعمل مع مهني من المحترفين الذين لم يحققوا الشهرة، فغابت عنهم عقود التدريب، ولكنهم لا يبخلون بخبراتهم على من فرضوا عليهم من رؤساء أو أصحاب المنصة التي فيها يعملون.
وأكبر الخاسرين جراء انتشار مراكز التدريب غير المهنية تلك هم الكفاءات الإعلامية من ذوي الخبرات النادرة والأكاديميين الذين بادروا بإنشاء مراكز تدريب وفق القواعد والأصول المهنية، لكن الدخلاء أفسدوا عليهم أمرهم، فما يلبثون أن يقبلوا باللعب بأدوات السوق أو أن يختصروا المسافة وينسحبوا سريعًا من السوق بعد تكبد خسائر مالية فادحة لإيقاف نزيف الخسائر عند حدها الأدنى.
خلاصة الأمر أن نظرة موضوعية يجب أن توليها الجهات الرقابية والنقابية والمؤسسات المهنية لحماية المهنة من الدخلاء والمتربحين، وعلى المهنيين الحقيقيين تأهيل أنفسهم باكتساب خبرات تسويقية وإعلانية للترويج لأنفسهم ولمهاراتهم، وألا ينسحبوا أمام طوفان الركاكة واللامهنية.