شهادتى عنهن ليست مجروحة
كان في مخططي أن أكتب هذا المقال خلال أيام مارس المنقضي، والذي يسمى اصطلاحًا شهر المرأة لما فيه من أعياد تخص الأم والمرأة في مصر وفي كل أرجاء العالم، لكنني آثرت أن أرجئ الخوض في هذا الموضوع لسبب أراه وجيهًا، ألا وهو انتهاء خدمة واحدة ممن اخترتهن موضوعا للكتابة في هذا المقال، منذ يومين مضيا فقط، وهو ما يجنبني أي اتهام بتملق أو يصمني بشبهة مجاملة لحاجة أو غرض.
وزيادة في الاحتياط فإنني لن أكتب عن سيدات يربطني بهن صلة دم أو نسب أو قرابة كأمي التي ربتني يتيمًا بعد رحيل والدي وأنا في الخامسة من عمري، حتى أنني أتباهى بين أقراني بأنني ربيب امرأة رحمها الله ورحم أمهاتنا جميعًا، ولن أذكر في مقالي كل الفضليات اللاتي تعاملت معهن في مسيرتي المهنية وحياتي العملية كرئيسات أو زميلات عمل اكتسبت منهن الخبرة، ومبادئ وأوليات الصنعة سواء كمدرس، حيث بدأت في بداية حياتي المهنية، ثم كإعلامي حين تركت مهنتي الأولى بعد سنوات معدودات لأحدث ما يسمونه اليوم بـ"الشيفت كارير".
وقد اخترت أن يكون مقالي عن رموز ثلاثة من القيادات النسائية في مجال الإعلام المسموع، تعاملت معهن عن قرب، وازداد يقيني معهن أن المرأة تستطيع أن تنجح في إدارة منظومة عمل كبيرة بنفس قدرتها على إنجاح أسرتها وإدارة شئون بيتها.
وإن كنت أتمنى أن أكتب عن الكثيرات من سيداتي اللاتي أضفن لي وساندن ما كن يصفنه بتميز أو كفاءة، لكن من أين لي بمساحة صحفية تتيح لي الكتابة عن فضليات أمثال: نجوى أبوالنجا، نادية حلمي، آمال العناني، إيناس جوهر، صديقة حياتي، نادية صالح، هالة الحديدي، نهى العلمي، مديحة الغنيمي، نادية مبروك، هدى العجيمي، حبيبة حمدالله، آمال علام، نوجي أباظة، نهلة حامد، تراجي عباس، رباب البدراوي، حكمت الشربيني، نادية توفيق وغيرهن كثيرات وكلهن مقدرات.
وقد يأتي اليوم الذي أدلف فيه للكتابة المطولة عنهن في كتاب يؤرخ لرموز ماسبيرو رجالًا ونساءً، غير أنني سأكتفي اليوم بالإشارة - مجرد الإشارة - لثلاث سيدات قدن شبكة إذاعية هي الأهم على المستوى العربي، وهي شبكة صوت العرب بما تمثله من إذاعة ذات توجه سياسي قومي.
كانت أولى السيدات اللاتي تعاملت معهن السيدة أمينة صبري، والتي جاء اختيارها كأول سيدة ترأس صوت العرب مفاجأة مدوية لا لشيء إلا لأن المنصب قبلها كان محجوزًا للرجال فقط، فقادت المنظومة لتواصل مسيرة النجاح بتألق ملفت للأنظار، أذكر أنها منحتني الفرصة مبكرًا جدًا حين سمحت لي بتقديم برنامج رمضاني يومي بعد أشهر قليلة من التحاقي بالعمل، فيما لم يكن مألوفًا في العرف الإذاعي.
ولا أنسى أبدًا يوم كلفتني بمحاورة صحفية فاضلة من كبيرات الوسط الصحفي ولارتباطي بعمل خاص فإنني لم أذهب في الموعد المحدد للتسجيل، عرفت فيما بعد أن أستاذتي كانت قد سبقتني إلى اللقاء في الموعد المحدد، وعند لقائي بها أعطتني درسًا لم أنسه في حياتي، أن من أول أسباب النجاح بالنسبة للإعلامي هو احترام المواعيد، وهنا كان ردي هو الاعتذار عمليًا بالتواصل مع السيدة التي تجاهلت موعدها مسبقًا، والإلحاح في طلب اللقاء في نفس اليوم للاعتذار لها أولًا، ثم لإنجاز الحوار ثانيًا وكان من سماحة السيدة أن لبت مطلبي على الفور، وبعد ساعة عدت لأستاذتي ليكون اعتذاري عمليًا بتسليمها مادة الحوار.
سيدة ثانية تولت رئاسة "صوت العرب" بعدها هي الإذاعية نبيلة مكاوي التي نجحت من قبل في تأسيس وإدارة إذاعة الأغاني، ثم تولت رئاسة صوت العرب لتعطينا درسًا في أول اجتماع عام بنا أن روجوا لأنفسكم ولبرامجكم قدر المستطاع، ففي تألقكم ونجاحكم وجماهيريتكم نجاح لإذاعتكم وشهادة لي بحسن إدارتها.
ودرس آخر علمتني إياه حين صحبتني في مهمة عمل إلى ليبيا الشقيقة كمافأة لي على ما رأته تميزًا في مجال عملي، وهناك كانت تقدمني كما لو كنت رئيسها الأعلى ولست مرؤوسًا لها.
وحين صارحتها أن هذا يسبب لي قدرًا من الخجل، قالت لي: الكبير هو من يتعامل مع الكبار وحين أقدمك بهذا القدر فأنا لا أبالغ كما أنني أمنح الجيل التالي حقه من التقدير ليعلم أخوتنا العرب أننا مدرسة ممتدة، بجيل يسلم الذي يليه ويعترف له بالموهبة.
أما السيدة الثالثة التي عملت تحت رئاستها وأشهد لها بالكفاءة المهنية والموهبة الإدارية فهي د. لمياء محمود رئيس صوت العرب، والتي غادرت منصبها رسميًا بالتقاعد قبل يومين مضيًا وهي سيدة إدارة من الطراز الرفيع، تخطت بصوت العرب عقبات كثيرة فرضتها التقلبات السياسية ونقص الإمكانيات المادية.
علاوة على ريادتها في الاهتمام بالتحصيل الأكاديمي حتى حصلت على الدكتوراه من إعلام القاهرة بتميز ملفت، ورغم خلاف إداري معها في مرحلة من المراحل، إلا أنها حين عرض عليها أمر منحي منصب إداري رفيع تحت رئاستها رحبت وأثنت ثم ساندت، بل إنها لم تبخل علّي على مدى ثلاثة أعوام بمنحي خبرات إدارية، وتوجيهي لرؤى مهنية وتعريفي بشخصيات عربية كبرى، وتزكيتي في كثير من المواقف على نفسها ربما.
إنهن مجرد نماذج ثلاثة مشرفة للمرأة المصرية حين توكل إليها مسئولية إدارية أو فنية، فسيدات مصر بحكم تكوينهن الفسيولوجي وتركيبتهن الإنسانية وذكائهن الفطري يعطين بلا حدود، ولا يعلين إلا المصلحة العليا للبلاد ولا يزكين إلا من يرونه أهلًا للتزكية، وليس في ثنائي على حواء أي انتقاص من قدر آدم فكلاهما رمز للعطاء وأهل للوفاء.